إزالة كل ما يشغل عن الصلاة

وأما حديث عائشة الذي بين أيدينا ففيه أنه ينبغي على المصلي أن يزيل أو يمنع ما يشغله في صلاته، سواءٌ أكان قبل الدخول فيها، أو بعد أن دخل فيها، فـ عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سترت سهوة بيتها بقرام والقرام: نوع من القماش مثل الستارة فيه تصاوير، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووقع بصره على هذا القرام بعد الدخول في الصلاة نظر إلى تصاويره فشغلته، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من صلاته قال: (أميطي عنا قرامك) ، وفي بعض الروايات: (أن عائشة رضي الله تعالى عنها أدركت عدم رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القرام في مكانه، فأخذته) ، والرواية الأخرى تُصرَّح بأمره صلى الله عليه وسلم: (أميطي عنا قرامك؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي) ، ومن هنا قالوا: لا ينبغي أن يكون أمام المصلي ما يشغله إذا نظر فيه.

وجاء مثل هذا في بعض الأحاديث الأخرى، كما في صحيح البخاري في أنبجانية أبي جهم، والأنبجانية مثل الجبة، أهداها أبو جهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو جهم هو الذي استشارت المرأة فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أما أبو جهم فضرابٌ للنساء) ، أو: (لا يضع عصاه عن عاتقه) ، فأهدى هذه الأنبجانية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلنا يعلم أنه صلوات الله وسلامه عليه يقبل الهدية، وهذه من العلامات التي حرص عليها سلمان الفارسي، ليعرف من خلالها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قرأ في كتبهم: (لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة) ، وقصته طويلة، فقد بُيع واشتُري، وخلّص نفسه، حتى وصل إلى المدينة في ملك رجل يهودي، وسمع بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم وخروج الأوس والخزرج لاستقباله، فقال: الآن أتأكد، فأخذ شيئاً من الرطب وقال: يا محمد! هذه صدقة مني عليك وعلى أصحابك، فأزاحها إلى إخوانه وقال: (كلوا أنتم، أما أنا فلا تحل لي الصدقة) ، فعقد سلمان بيده واحدة، وكان هذا في قباء، ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

جاء سلمان بطبق آخر وقال: يا رسول الله! هذا شيء من الرطب ادخرته أقدمه هدية لك.

فأخذ وأكل، وأطعم أصحابه، فقال: هذه الثانية، فلما سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هذه الثانية، كشف عن كتفيه الشريفين وقال: (يا سلمان! انظر الثالثة) ، فاستدار سلمان ونظر فوجد خاتم النبوة فأهوى عليه وقبله.

وبالمناسبة، فقد كان أحد اليهود يعرف حقيقة النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه، ولما جاء عرفه بكل الأوصاف، وقال: إلا واحدة ما استطعت أن أتحققها، فعرض عليه قرضاً -ديناً- فأخذه صلى الله عليه وسلم إلى أجل، فجاء قبل حلول الأجل وقال: يا محمد! أعطني ديني.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم معسراً، فقال: أما إنكم يا بني عبد مناف قوم مطل، وأخذ يجر رسول الله صلى الله عليه وسلم بثيابه التي في عنقه ويردد كلامه، فسلَّ عمر السيف وقال: يا عدو الله! تخاطب رسول الله بهذه الصفة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يا عمر! كنت أحوج إلى أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن الطلب؛ لأنه صاحب حق) ، فلما سمع ذلك أخذ الرجل عمر وقال: والله ما أردت إهانة محمد، ولكني عرفت صفاته كلها -التي عندنا- إلا هذه، وهي عفوه عمن أساء إليه، ولقد أسأت إليه فإذا به كما سمعت، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.

فـ أبو جهم أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنبجانية فلبسها، وقام يصلي فإذا فيها تصاوير، فلما أنهى صلاته خلعها وقال: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بخميصة أبي جهم) ، فما معنى قوله: اذهبوا بخميصة أبي جهم هذه التي أهداها إليّ، وائتوني بخميصته التي يلبسها؟ ولماذا يستبدل؟ ولماذا لم يرد الهدية إذا لم تكن أعجبته؟! قالوا: لأن أبا جهم ما أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا محبة له، فإذا رد هديته عليه، فكيف يكون الحال؟ وماذا سيقول أبو جهم؟! فلعله يقول: ردها لسخطة عليّ، أو لإساءة مني، أو لتقصير في حقه.

فلكي يرفع عن أبي جهم تلك الظنون.

قال: (ائتوني بخميصته) ، فيكون طلب الخميصة الخاصة بـ أبي جهم مقابل رد الخميصة التي أهداها إليه وردها عليه، أي: لئلا يقال: لم يقبل هديتك يا أبا جهم! .

ولذلك يقول العلماء: لا ينبغي للإنسان أن ينصب أمام وجهه -وهو في الصلاة- ما يشغله، وكذلك لا يصلي على شيء فيه ما يشغله، وأكدوا على التصاوير، وعلى الصليب، وعلى الأشياء الأخرى اللافتة للنظر.

وذكروا في ذلك أنه لو أن في البساط الذي تصلي عليه صورة أتصح الصلاة عليها أم لا؟ فذكر النووي رحمه الله أنه تصح الصلاة عليها؛ لأن الصورة في البساط ممتهنة؛ لأنها توطأ بالقدمين، ولكن لا يتعمد وضع الجبهة في السجود على الصورة، وكذلك الصليب، فقد توجد الصلبان في بعض الصناعات، ولكن يصلى؛ لأن الصليب ممتهن، لكن لا يتعمد أن يجعل جبهته في السجود على صليب من الصلبان التي في الفراش.

وأما موضوع الصور فإن عائشة رضي الله تعالى عنها لما جاء لعن المصورين، وكان القرام فيه صور قالت: (فأخذته فشققته فجعلته وسائد) أي: (مخدات) ، قالوا في ذلك: لأن القرام إذا كان طوله مترين أو ثلاثة ربما تكون فيه الصورة كاملة، فإذا ما قُطِّع تقطعت أشكال الصور، ولم يبق إلا أجزاء مختلفة، وتكون في الوسائد ممتهنة، بخلاف المعلقة؛ إذ إنها تكون للجمال، وتكون للزينة، وتكون للتكريم، وتكون لغير ذلك، فإذا ما قطعت تقطعت الصورة إلى أجزاء، وخرجت عن محظور قوله: (من صور صورة أمر يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ) ، فإذا قطعت لم تُعد صورة، فقطعة فيها رأس، وقطعة فيها أرجل، وقطعة فيها صدر، فالرأس وحده لا ينفخ فيه روح، والأرجل وحدها لا ينفخ فيها الروح، والصدر وحده لا ينفخ فيه الروح، ومن هنا قال العلماء: جزء الصورة للحاجة لا بأس به.

ونحن الآن وجدنا الاضطرار إلى جزء الصورة في البطاقة الشخصية حفاظاً على الأمن، والبطاقة الشخصية لها أصل في تاريخ الإسلام؛ لأننا وجدنا في غزوة الأحزاب أنه أرسل النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة فقال: اذهب فأتني بخبر القوم فذهب ودخل في القوم، فإذا بـ أبي سفيان ينادي في عسكره: ليعرف كلٌ منكم جليسه، أي: حتى لا يدخل فيكم من ليس منكم فيكتشف أسراركم يقول حذيفة: فبادرت من بجانبي وقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان.

وسكت ولم يسألني.

فقوله: (فمن أنت) هو التعريف بالبطاقة الشخصية التي فيها اسمه، واسم أبويه، وميلاده، ومكان الميلاد، ورقمه الخاص الذي تحمله البطاقة، فـ (من أنت) تتضمن هذا كله.

فأساس البحث في الصورة هل هو في ذات الجسم الذي له ظل، كالتماثيل المشخصة، أو ما كان بالريشة؟ ومن أراد التفصيل الوافي في هذه المسألة فليرجع إلى نيل الأوطار يجد ما يتعلق باللباس، والصور ونوعها، والتحريم والرخصة في ذلك، ويهمنا في بابنا هذا الحث على الخشوع في الصلاة، فلا ينبغي للإنسان أن يصلي في ثوب يكون فيه من الألوان أو الرسوم ما يشغل باله، ويلفت نظره عن خشوعه في الصلاة، والله تعالى أعلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015