مشروعية اتخاذ المؤذن

قال المصنف رحمه الله: [وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، فقال: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) أخرجه الخمسة، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم.

] هذا الصحابي كان في وفد، وكان أصغرهم سناً، وكان بالغاً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اجعلني إمام قومي، فقال: أنت إمامهم، ويقولون: إنه كان يمر عليه الوفود فيتلقاهم في الطريق فيسمع منهم القرآن، ويحفظ منهم ما سمعوا من رسول الله، فكان قد جمع بعض السور الصغار من القرآن الكريم، وهذا لا يتنافى مع حديث: (يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله) ، فهذا إذا تعدد القراء نظرنا من هو أقرأ وأحسن تلاوة، في تجويده وإخراج الحروف من مخارجها، وإعطاء الحروف حقها، والمد والإدغام ونحو ذلك، ويكون أحفظ من الآخرين، فإذا تساووا في ذلك نظرنا من هو أقرؤهم، وقدمناه للإمامة، مع توافر الشروط الأخرى، وهي: أن يكون تقياً ورعاً يعرف حق هذا المقام العظيم بين يدي الله، كما جاء في الحديث -وهو مكتوب عندكم في المحراب هناك-: (تخيروا أئمتكم فإنهم وافدوكم إلى الله) ، فالإمام يتقدم القوم ويسأل الله: اهدنا الصراط المستقيم، يسأل لنفسه ولمن معه، فينبغي تخير الإمام، قال ابن الحاجب: كان في المغرب لا يقدم للإمامة إلا من شهد له أهل القرية بصلاحه وأفضليته على الجميع، أما في بعض البلدان الأخرى -وقد سماها ولا أريد أن أسميها- فإن الإمامة عندهم مرهونة بالنقود، وقد يتولاها من هو كذا وكذا! وهنا قوله: (اجعلني إمام قومي) ، كيف يطلب الإمامة وهي ولاية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من طلب ولايةً أو إمارةً لا نعطيه إياها) ؟ قالوا: إذا علم الإنسان من نفسه الاستطاعة بالقيام بحق الولاية، وإنها ستضيع إذا أسندت إلى غيره لعدم وجود الأكفاء، فيتعين عليه أن يتقدم لحفظها لا لحظ نفسه، واستدلوا بقصة نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإنه عندما عبر الرؤيا للملك، وذكر له الأمر قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:55] ، وهذه ولاية على الأرزاق {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] أي: عندي الأهلية، ولو تركت لغيره لضاعت، فكان من حقه أن يتقدم لطلب الولاية لحفظها، وهكذا القضاء والإفتاء والأذان والإمامة وكل عمل ديني محض.

وقوله هنا: (واقتد بأضعفهم) ، كيف يقتدي بأضعفهم والمأمومون يقتدون به هو؟ المعنى: أنك ستكون إماماً، فلا تجعل السلطة والاختيار لك في أن تفعل ما شئت، وتطيل عليهم، بل اقتد بأضعف من يصلي وراءك، فليكن أضعف المأمومين هو القدوة لك، فلا تثقل عليه ولا تؤذيه بالإطالة، إنما عليك أن تراعي حال المأمومين.

وقد عرفنا قصة معاذ بن جبل رضي الله عنه، وقد جاء في حقه أنه: (أعرفكم بالحلال والحرام) ، فكان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء في المسجد الشريف، ثم يذهب ليصلي بأهل قباء العشاء، فدخل ذات ليلة في صلاة العشاء، وكان رجل يعمل طيلة نهاره في بستانه فدخل في الصلاة معه فإذا بـ معاذ بعد أن قرأ: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] آمين يقرأ: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] ، وشرع في أول البقرة، فقال الرجل في نفسه: والله! لن يقف حتى يختمها، فانعزل عنه، وصلى منفرداً، ورجع إلى بيته، وفي بعض الروايات أنه حينما أتى إلى المسجد أرسل نواضحه وتركها تمضي إلى البيت، ودخل في الصلاة وهو لا يدري: هل ستذهب إلى البيت أو لا؟ وهو طول النهار يعمل، فهو متعب، فإذا قام وراء الإمام الذي يشرع في الأولى بالبقرة، فربما الركعة الثانية يقرأ فيها بآل عمران! ومتى ينتهي؟! فاختصر الطريق من قريب، وصلى وذهب إلى بيته، وعلم معاذ بذلك، فقال: إنه رجل منافق، ما صبر على الصلاة! والمنافقون يأتون الصلاة وهم كسالى، فبلغ الرجل مقالة معاذ في حقه، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم واشتكى من معاذ؛ لأنه رماه بالنفاق، وقد فعل كذا وكذا، فاستدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (أفتان أنت يا معاذ؟!) ، سبحان الله! رجل يقرأ بالبقرة في ركعة ويقول له: أنت فتان! إنه اجتهد، وغلب جهة العاطفة، وهو كان حديث عهد بالصلاة خلف رسول الله، وحديث عهد بسماع تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث عهد بصلاة أمهم فيها رسول الله، وتلك حالة روحية تجعل عندهم انفتاح وانفساح وقدرة على إطالة القيام ولو الليل كله، ولكن غيره ليس مثله، فقال له: (أفتان أنت؟) ، ولماذا؟ وأين الفتنة؟ تطويلك هذا يؤدي إلى ترك الجماعة وتفرق الناس، وستكره الناس للصلاة، وهذه أعظم فتنة، أين أنت من {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] وذكر له سوراً قصاراً من المفصل.

فقوله: (واقتد بأضعفهم) ، سواءً كان لكبر سن أو كان لمرض أو لاشتغال، فيجب أن تراعي المصلين الذين خلفك، وتقتدي بأضعفهم، وتراعي ما يستطيعه من الإطالة والقيام والقراءة.

وقوله: (واتخذ مؤذناً) ، فيه أدب التعيين، ما كل إنسان يأتي يؤذن، إنما يكون المؤذن مرتب من المسئول؛ لأن الأذان إعلام لأداء الصلاة لله، وهذا عمل رسمي، فلا ينبغي لكل من هب ودب أن يأتي ويؤذن، هل ندري من يحسن الأذان أم لا؟ هل ندري أمانته واستقامته أم لا؟ لا ينبغي لأي إنسان أن يقدم على الأذان إلا بإذن مأذون من الإمام أو من ولي الأمر، اللهم إلا المساجد العامة التي على الطرقات، وليس لها مؤذن خاص، ولا إمام خاص، وبينت على الطريق لمن تحضره الصلاة فيصلي؛ فلا مانع لمن حضر الوقت وهو حاضر أن يؤذن، وكذلك من حضر الصلاة أم بالناس، ولو تعددت الجماعات في هذه المساجد فلا مانع.

أما المساجد المقيمة عند أحياء عامة، وثابت أهلها وسكانها؛ فلا ينبغي أن يؤذن مؤذن إلا مأذون له، ولا يؤم الناس إلا معين فيها، ولا يجوز إعادة الجماعات في تلك المساجد مرتين أبداً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015