وقوله: (ثم سلوا لي الوسيلة) ، بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها منزلة في الجنة رفيعة لا تنبغي إلا لعبد واحد بلا مشاركة، ويقول صلى الله عليه وسلم (أرجو أن أكون أنا هو) .
يا سبحان الله! ومن يتقدم عليه إليها؟ ومن هو أحق بها منه؟ لا أحد، ولكن هذا تواضع منه مع رب العزة، ولم يأتل على الله بأنه صاحبها، ولكنه حسن الظن بالله، والتواضع بين يدي الله، وإن كان يعلم أنه أفضل الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وأنها لا تنبغي لغيره، ولكن تأدباً مع الله واحتراماً لقدرة الله وعطائه وحكم إرادته المطلقة، قال: (أرجو) ، وهذا الرجاء حقيقة، ولن تكون إلا له.
والمقام الرفيع الذي وعده هو الشفاعة العظمى حينما يحشر الناس جميعاً في صعيد واحد، وتدنو الشمس من الرءوس، ويلجم الناس العرق، ولم يكن بين الشمس وبين رءوسهم إلا قدر ميل.
قيل: ميل المرود الذي للمكحلة، وقيل: ميل المسافة، ومهما يكن من شيء فالشمس الآن في الصيف بيننا وبينها بلايين الأميال ومع ذلك يتضرر الإنسان من حرارتها، فإذا كانت يوم القيامة بقدر ميل واحد.
أي: كيلو ونصف فكيف يكون الحال؟ (فيضج الناس، ويقولون: ألا ترون ما نحن فيه، ألا تطلبون من يشفع لنا عند ربنا، ليأتي لفصل القضاء، فيقولون: ومن يشفع لنا؟ قالوا: اذهبوا إلى نوح أبي البشر فيذهبون إلى نوح فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله قط، وإني قد دعوتي على قومي دعوةً أغرقتهم، اذهبوا إلى إبراهيم خليل الرحمان، فيأتون إلى إبراهيم ويعتذر لهم أيضاً، ويقول: أذهبوا إلى موسى كليم الله، فيذهبون إلى موسى ويعتذر، ويقول: اذهبوا إلى عيسى روح الله، فيأتون إليه ويعتذر ويقول: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيذهبون إليه فيقول صلى الله عليه وسلم: أنا لها، أنا لها، ويذهب حتى يسجد تحت العرش، ويلهمه الله بمحامد وتسابيح لم يكن يعلمها من قبل) ، وهذا مثل الحديث: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فما استأثر سبحانه به في علم الغيب عنده يلهمه رسوله في ذلك الوقت، (فيسبح الله ساجداً إلى ما شاء الله حتى يقول له المولى سبحانه: يا محمد! ارفع رأسك، وشفع تشفع، فيقول: يا رب! فصل القضاء) ، وهذه الشفاعة العظمى التي شملت الأمم جميعها بما فيهم من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون.
ثم تتوالى الشفاعات بعد ذلك، وهي سبعة أنواع، يشفع في قوم استحقوا النار ولم يدخولها، ويشفع في قوم لترتفع درجاتهم في الجنة، ويشفع في أناس دخلوا النار فعلاً فيخرجون منها، إلى غير ذلك من أنواع الشفاعات.
في هذا الحديث يبين صلى الله عليه وسلم أن مستمع المؤذن يقول كما يقول المؤذن، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الله له الوسيلة والمقام المحمود، فمن فعل ذلك كان له وعد عند رسول الله بالشفاعة ووعده صادق، والله سبحانه وتعالى أعلم.