وهنا يبحث عامة علماء الحديث قضية من أشد القضايا إشكالاً، وهي تعارض حديثين، هما حديث: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) ، وحديث: (إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ، فتعارض النصان في الظاهر.
ففي الحديث الأول قال: (لا) وهي نافية، (صلاة) وهي نكرة عامة تشمل جميع الصلوات (بعد العصر) وهذا خاص في الزمن، فهذا الحديث عام في الصلوات، وخاص في الزمن أي: فيما بين العصر إلى الغروب.
وفي الحديث الثاني -وكلاهما صحيح ثابت كالجبل- قال: (إذا أتى أحدكم المسجد) وقوله: (أتى) عام في الزمن، (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ، وهذا خاص في الصلاة، ولذا يقول العلماء: بين الحديثين عموم وخصوص من وجه، فما كان عاماً في الحديث الأول كان خاصاً في الثاني، وما كان عاماً في الثاني كان خاصاً في الأول، وهذه من أدق المواضيع، وأرجو أن ييسرها الله سبحانه وتعالى.
والقاعدة عند علماء الحديث: لو جاء حديث عام من وجه، وجاء حديث خاص؛ حملنا الخاص على العام، وخصصناه بهذا الحديث المخصص له، كما جاء قوله: (أن في أربعين شاة شاة) مطلق، وجاء أن في سائمة الغنم الزكاة، وسائمة وصف خاص، فنقيد الإطلاق في قوله: (في أربعين شاة شاة) بالسوم الموجود في الحديث الثاني، فأصبح المعنى: في أربعين شاة سائمة زكاة، فهنا حديث عام وحديث خاص، فحملنا العام على الخاص، وخصصناه بما جاء في الحديث الثاني، وبهذا تجتمع النصوص.
وهنا حديث: (لا صلاة بعد العصر) ، الصلاة عامة، والوقت خاص، وإذا جئنا إلى حديث تحية المسجد فالوقت عام، فهل نخصص عموم الوقت في الإتيان إلى المسجد بخصوصه بعد الصلاة؟ فنقول: إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين إلا بعد العصر، فنكون قد خصصنا عموم الإتيان في الزمن بخصوص الوقت في الحديث الآخر، ويكون هذا جمعاً صحيحاً.
لكن من العلماء من يقول: (لا صلاة بعد العصر) إلا تحية المسجد، ويأتي بالخصوص في تحية المسجد، ويخصص به عموم النكرة في قوله: (لا صلاة) .
إذاًَ: كل من الحديثين مخصص للثاني، وكل منهما قابل عمومه للتخصيص بالمخصص الذي في الآخر، ولكن أي الحديثين نخصص به الآخر؟ هذا هو محل النزاع.
يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: إذا لم يمكن تخصيص عموم أحدهما بخصوص الآخر، فليس أحدهما أولى من الآخر، فينبغي أن نطلب مخصصاً من الخارج، قال: فرجح الجمهور تخصيص الصلاة وأنها ممنوعة بعد العصر بحديث آخر، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) ، قالوا: فجانب النهي أقوى وألزم في الالتزام به من جانب الأمر، فقوله: (لا صلاة بعد العصر) نهي، وقوله: (إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ، مضمونه الأمر بالصلاة، فإذا تعارض الأمر والنهي قدم النهي، والأمر بتحية المسجد سنة بالإجماع، والنهي أقل ما يكون فيه الكراهية إن لم يكن التحريم، فلأن نجتنب مكروهاً خير من أن نفعل مندوباً.
ومن هنا رجح ابن دقيق العيد أن حديث: (لا صلاة بعد العصر) عام في الصلوات كلها حتى تحية المسجد، ولا يخص من الصلوات إلا إذا جاء مخصص بصلاة معينة، كحديث: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها حين يذكرها) ، فلو أن رجلاً صلى العصر، وقبل أن تغرب الشمس تذكر أنه لم يصل الظهر، فعليه أن يصليها حين ذكرها، ويخص من النهي أيضاً الصلاة على الجنازة وصلاة ركعتي الطواف، وقد جاء في الحديث: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار) ، فقوله صلى الله عليه وسلم: (أية ساعة) مراعاة للنهي عن الصلاة بعد العصر، فكأنه يقول: في أية ساعة ولو من الساعات المنهي عن الصلاة فيها.
فحديث: (لا صلاة بعد العصر) يعم كل صلاة بعد العصر، فأخذ الجمهور بعمومه إلا ما خصه الدليل.
والشافعي رحمه الله خصص النهي بالصلاة المطلقة التي ليس لها سبب شرعي، أما الجمهور فعمموا قوله: (لا صلاة بعد العصر) مطلقاً، وعمر رضي الله تعالى عنه ثبت عنه أنه رأى رجلاً يصلي بعد العصر في المسجد النبوي، فضربه وقال: أتصلي بعد العصر؟! وهناك من يقول: تجوز الصلاة ذات السبب بعد العصر إذا لم يتحر اصفرار الشمس، لحديث ابن عمر: (لا تحروا اصفرار الشمس بالصلاة) ، فإذا صلى بعد العصر في أول الوقت صلاة ذات سبب فذلك جائز؛ لأن الشمس ما زالت حية بيضاء نقية.
ومعنى الصلاة ذات السبب: أي: سبب موافق في الزمن، أو سبب سابق، أو سبب لاحق، فالسبب السابق هو دخول المسجد، فهو سابق عن الصلاة، والسبب اللاحق هو الصلاة قبل الإحرام بالعمرة أو الحج؛ لأنك تصلي ثم تحرم، والسبب الملازم الموافق هو صلاة الكسوف؛ لأن صلاة الكسوف تكون وقت كسوفها، لا يتقدمها ولا يتأخرها، وعند الشافعية: أن صلاة ذوات الأسباب المقارنة والسابقة تجوز وقت النهي، أما ذات السبب اللاحق فلا تؤدى وقت النهي، ولهذا لا يصلون سنة الإحرام وقت النهي؛ لأن الإحرام يأتي بعدها، والله تعالى أعلم.