وهنا بحث طويل -بالنتيجة فيه والله تعالى أعلم- وهو: هل عذاب القبر للجسم وقد فني وصار تراباً أم أنه للروح، أو للروح مع الجسم؟ ليس هناك نتيجة قطعية، لأن عالم البرزخ عالم غيب، ولا يستطيع عقل البشر أن يتصور حقيقة عالم البرزخ، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم من الأخبار الأمر العجيب، جاء في حق نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر عليه وهو قائم في قبره يصلي، ثم لما وصل بيت المقدس فإذا هو مع الأنبياء في استقباله، ثم لما عرج به صلى الله عليه وسلم فإذا به في السماء السادسة، فإذاً موضوع البرزخ أمر لا يعلم حقيقته إلا الله.
وجاء في حق الشهداء: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] وأجسامهم في الأرض مدفونة، وقدمنا ما ثبت في حق شهداء أحد لما دفنوا في أرض المعركة على ما هو الأصل والسنة في ذلك: أن شهداء المعركة يدفنون في موطن مصرعهم ولا ينقلون، ولكن جاء سيل وجرف بعض القبور من شهداء أحد، منهم سيد الشهداء عم الرسول صلى الله عليه وسلم حمزة؛ فنقلوه من مجرى السيل إلى الربوة المرتفعة التي هو فيها الآن، يقول مالك: لما جرف السيل الأرض عن قبورهم وجدوا أجسادهم طرية كأنهم دفنوا بالأمس، وذلك بعد أربعين سنة من دفنهم، فهذه حالة لا يمكن للإنسان أن يتصورها بعقله.
وذكرت لكم القصة التي ذكرها لي بعض أعضاء الهيئة الذين كانوا في منطقة أحد، قالوا: توفيت لنا طفلة، فتباطأنا أن نذهب بها إلى البقيع، وقلنا: ندفنها هنا في مقبرة الشهداء، فذهب أبوها ليحفر لها في مقبرة الشهداء، فما لبث أن واجهه الدم في وجهه، فألقى بالمسحاة وتحسس، فإذا المسحاة قد مست فخذ رجل، وتطاير منه الدم على وجهه، نحن إذا قلنا: إنهم أحياء وهم في هذا التراب مقبورين، كيف نتصور حياة لهؤلاء؟ بماذا يتغذون؟ وكيف يتنفسون؟ لكن هم أحياء عند ربهم يرزقون، كيف يرزقهم؟ هذا شيء لا دخل لنا فيه، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الوصال في الصوم أنه قال: (لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقين) وقالوا: لو كان يطعمه ويسقيه كما نطعم نحن ونشرب لم يكن هذا صياماً، ولكن (عند ربي) والله سبحانه وتعالى أعلم بكيفية إطعامه وسقيه وهو في الحياة بين أظهرنا، فكيف يكون الحال في موضوع القبر؟!