الأصوليون يقولون: إن جميع الأديان، وجميع نظم العالم اتفقت على ضرورة حفظ الضروريات الخمس التي لا قوام لمجتمع بدونها: الأديان، والأبدان، والأنساب، والأعراض، والأموال، وبعضهم يجعلها ستاً بإضافة العقول، والبعض يعد الأنساب والأعراض اثنين، وبعضهم يجعلها واحدة تلك الأمور الست مشتملة ضمناً في مسميات خطبة الوداع، دماؤكم هي حفظ الأبدان، أعراضكم، ويدخل تحتها الأنساب؛ لأن الأنساب لا تتدنس ولا تختلط إلا بعد انتهاك الأعراض، فإذا صينت الأعراض صينت الأجساد، وبقي العقل والدين؛ فالخطاب مع أهل الدين؛ لأنهم في الحج، ومن احترم ذلك احترم الدين، وكذلك العقل؛ لأنه يخاطب العقلاء.
وعلى هذا: فتلك الجملة في هذه الخطبة تعتبر أماناً وضماناً للمجتمعات بأسرها، وإذا أردنا أن نوسع في مدلول هذه المسميات: (دماءكم) سواء كان باعتداء أو خطأ، أو في النفس أو الأعضاء، كل ذلك محرم، وقد حمى الله الدماء، وجعل في الاعتداء عليها القصاص {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178] ، ثم جعل الجروح قصاص، ثم سد باب الاعتداء، ووضع الحواجز دون سفك الدماء؛ لعدم الاستهزاء والسخرية، والسباب، والدخول في المناقشات الحادة حتى لا تصل إلى سفك الدماء، وتأملوا ذلك في سورة الحجرات.
والأموال حرمها الله سبحانه وتعالى: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه) ، وطيب النفس إما بعوض وإما بهبة، أما بغير ذلك فليس هناك طيب نفس، وما جاء في الصداق: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] ، وإذا لم يطبن؟ {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء:20] ثم يبين: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء:21] ؛ فهو حق ثبت بالإفضاء، فإن طابت نفس المرأة بصداقها ولو قناطير مقنطرة فـ: {هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] ، وإن لم تطب نفسها ولو بدرهم فلا يجوز أخذه، وهذا تنبيه للذين يؤذون النساء ويسيئون عشرتهن لتفتدي منه بالمال، فهذا أخذ ماله بغير رضاها، والتعدي على حقوقها واضطرارها للافتداء منه.
وكذلك لو ذهبنا إلى الأسواق ونظرنا فيما يتعلق بالغش والتدليس، وبتطفيف الكيل والوزن، وبكل أمور المبيعات والوصول إلى أموال الناس بغير حق، فهي داخلة في هذا ضمناً، ثم لما حرم الله المال ما حرمه إلا بحق، وجعل في سرقته القطع، وفي اغتصابه التعزير، وفرق بين الاختلاس والاغتصاب والسرقة، بفوارق مذكورة في كتب الفقه.
فالسرقة: أخذ المال بالخفية من حرزه.
والاختلاس: أن يخون المؤتمن على ما اؤتمن عليه.
والغصب: أخذ المال قهراً بدون حق.
فهذه كلها طرق حرمها الله ليسلم المال لصاحبه.
ثم في التحايل عليه، وطرق الغش فيه، والرشوة قال الله: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ} [البقرة:188] ، أو العموم في أول السياق: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] ، وقوله: (بالباطل) راجعة إلى أموالكم بينكم، إلى مال الشخص في ذاته بأن ينفق ماله في باطل محرم: مخدرات، مضرات، سرف وتلف، وأموال أخيه إليه، و (أموالكم) تعم الطرفين: الشخص في ذاته في إنفاقه فيما حرم الله، والآخر في أخذه بدون رضاه: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188] ، بخلاف الذي لا يعلم بأن ذلك خطأ، أو جاء سهواً، فلما نبه عليه رد المال إلى أهله.