هذا جزء من حديث طويل، ومن خطبة بليغة جامعة خطبها النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقد اشتملت في مجموعها على مهام تعاليم الإسلام؛ فتناول صلى الله عليه وسلم الحث على التمسك بالكتاب والسنة، وحذر من الفرقة: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ، ثم تناول المرأة بحقوقها، وأنها عوان بأيديكم، واستوصوا بها خيراً.
ولم يقل: أوصيكم بها خيراً، بل قال: استوصوا؛ لأنه لو قال: (أوصيكم) تكون وصية واحدة من مصدر واحد، وهو كاف؛ لأنها وصية رسول الله، ولكن قال: (استوصوا) ؛ لتستمر الوصية على مدى الأجيال، كل يوصي الآخر بالمرأة، والعوان: الخدم، (استحللتموهن بكلمة الله) ، ليس بالصداق، ولا بالمغالاة في المهور، ولا بالأثاث ومتاع الدنيا، ولكن بكلمة الله: زوجتك قبلت.
ثم تناول صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام، ثم جاء إلى هذه الجملة، وهي من جوامع الكلم، وجعل لها مقدمة، وهذا من بلاغة الأسلوب النبوي حتى يسترعي الانتباه، ويوحي بخطر ما سيأتي بعده، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (أي يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم الحج الأكبر؟ قلنا: بلى.
وقال: أي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس شهر الله المحرم -أي: الأشهر الحرم-؟ قلنا: بلى.
قال: أي بلد هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بالبلد الحرام؟ قلنا: بلى) كل هذه المقدمات تثير تعظيم حرمات الله، اليوم الحرام، الحج الأكبر، الشهر الحرام: ذو الحجة، في البلد الحرام: مكة المكرمة، ثم قال: (ألا -وهي أداة تنبيه تسترعي انتباه الغافل، وقد أثار فيهم الشعور من قبل بالحرمات الثلاث- إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) .
لو تأملنا هذا التحريم بالربط مع هذه المحرمات الثلاث لو جدناه كما يقوله الرياضيون: تحريم أس ثلاثة.
يعني: تكرار التحريم ثلاث مرات، والمتأمل في ذلك يجد أن أمن الدنيا وأمانها في سائر العالم لا في بلد دون بلد، ولا قطر دون قطر، ولا مع دين دون دين، جميع أنحاء العالم لا يمكن أن تستقر فيها حياة، ولا يستتب فيها أمن إلا إذا أمنت هذه الأمور الثلاثة؛ لأن البلد الذي لا يأمن فيه الناس على دمائهم قلق مضطرب، ونحن نشاهد ونسمع في بعض البلاد التي تزعزعها السياسة، وتثيرها الأحداث كيف يعيشون، لا يأمن الإنسان على نفسه في بيته ولا الطريق ولا الأسواق، ولا يدري متى يصاب، وهكذا الأعراض تنتهك بدون مبالاة، والأموال تنتهب علانية وتغتصب قسراً، ولا يستطيع أحد أن يرد تلك المظالم، بل أصبحت أموال الدول تغتصب الدولة تغتصب في ممتلكاتها وإنتاجها وذخائرها وموردها الخام، وقد تغتصب عياناً، أو من وراء الستار.