قوله: (أحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة) كل شخص منهما يحمل شيئاً، وكلمة (غلام) تدل على أنه صغير، معنى ذلك أنه لا بأس باستخدام الصغار للمساعدة في مثل هذه الحالة.
وقد كان من شأنه صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي في حديث المغيرة - إذا لم يكن هناك بيت للخلاء، وأراد الخلاء أن يبعد حتى لا يراه أحد، ولابد من الاستتار، ولو بكوم من رماد.
وجاء في بعض خواصه ومعجزاته صلى الله عليه وسلم أنه كان في أرض صلبة وما وجد شيئاً يستتر به، وكان هناك شجرتان متباعدتان، فناداهما وأشار لكل واحدة منهما أن تنضم إلى الأخرى، فشقتا الأرض والتقيتا حتى جلس وقضى حاجته، ثم أشار إليهما أن يرجعا، فرجعتا إلى ما كانا عليه.
وهذه الحادثة حدثت مرة أخرى لما كان صلى الله عليه وسلم في مكة، ولقي ركانة يرعى غنماً، وكان ركانة -كما يقولون- بطل المصارعة، فما كان أحد يصارعه إلا صرعه ركانة، فجاء الرسول وقال له: (يا ركانة! أما آن لك أن تسلم؟ قال: يا محمد! تصارعني؟ قال: نعم أصارعك.
قال: إن غلبتني أعطيتك مائة شاة، فصارعه فغلبه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم) يقول الصحابة: (كنا نحدث بأنه أوتي قوة أربعين رجلاً) .
وكانوا يحتمون به صلى الله عليه وسلم إذا اشتدت المعركة، وفي حنين لما فوجئوا برمي النبل من هوازن نفروا، فثبت مكانه وقال: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ، وما بقي معه إلا العباس، فقال: (نادِ: يا أهل بيعة الرضوان!) فرجعوا إليه وكروا على العدو ونصرهم الله، فكان صلى الله عليه وسلم -لا نقول مصارعاً- بل كان يصرع الصرعة، فهنا صرعه صلى الله عليه وسلم فغلبه، قال: واويلتاه! ما أحد قط وضع جنبي إلى الأرض قبلك، تعيدها؟ قال: نعم.
فأعادها معه المرة الثانية، فقال: والله يا محمد هذا أمر! لابد من الثالثة، قال: الثالثة، فصرعه، فوقف يضرب يداً بيد: يا ويلتاه! ماذا أقول لأهلي في ثلاثمائة شاة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: والله لا أجمع عليك غبنين: غبن في الغلبة وغبن في الشياة، ثم قال: أتعجب من ذلك يا ركانة؟! قال: إي -والله- يا محمد! قال: انظر إلى تلك الشجرة، فنظر إليها، فقال لها صلى الله عليه وسلم: إلي إلي فجاءت إليه تخط الأرض حتى وقفت بين يديه، ثم قال: عودي حيث كنت، فرجعت حيث كانت.
ويقولون: كان صلى الله عليه وسلم يبعد جداً ويستتر لجهتين: جهة شخصيته كمروءة، وجهة الناس؛ لأنه لو قدر أن إنساناً رآه فقد بصره، هكذا يقولون والله تعالى أعلم، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها زوجة، ومع ذلك تقول: (والله ما رأى مني ولا رأيت منه) وهذه أخلاق عالية، فهما زوجان في فراشٍ واحد، ويغتسلان في مكان واحد، ثم لا يرى أحدهما من الآخر، فهذه مثالية عليا في آداب الحياة والمعاشرة.
كان صلى الله عليه وسلم يبعد حتى يقضي حاجته، ثم يدنو من الناس ويطلب الماء ليستنجي، ويكون قد استعمل الحجارة هناك، وبعد أن قضى حاجته يطلب الماء ويستنجي بالماء، وهذا فيه إثبات استعمال الماء مبدئياً، وهو الأصل، وسيأتي استعمال الحجارة وأيهما أفضل، وسيأتي خبر أهل قباء: (إن الله أثنى عليكم في الطهارة ماذا تفعلون؟ (ولكن يهمنا في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل الخلاء ويستنجي بالماء.
والاستنجاء: هو إزالة النجو، والنجو: هو الباقي بعد الاستجمار؛ لأن الاستجمار لا ينقي، ولابد أن يترك أثراً مكانه، فمهما استعملت عدداً من الحجارة أو نحوها فلابد أن يبقى في مكانه أثر، ويتفق الفقهاء على أن هذا الأثر الباقي بعد الاستجمار مادام في محله فهو معفو عنه، ولو وجد مثل ذلك أو أقل منه في غير محله على اليد أو على الفخذ لما صحت الصلاة به، ولوجب غسله؛ لأنه في غير محله.
والله تعالى أعلم.