ويأتي لنا أنس مرة أخرى فيروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان وغلام نحوه يحملان للنبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء إداوة من ماء وعنزة.
ذكر العنزة وكونه يحمل إداوة من ماء وغلام نحوه كأنها قرينة على إرادة الخلاء الحقيقي وهو الفسيح من الأرض؛ لأنه في بيت الخلاء لا يحتاج إلى عنزة، وفي الفلاة يحتاج إلى العنزة حتى يركزها ويضع عليها رداءه، وتكون ستراً له من أعين الناس.
وحقيقة العنزة: هي عود من الخشب من نوع قوي، في طرفها زج من الحديد، والعرب كانت تصحبها في أسفارهم، وكان إذا أراد الإنسان أن يبول والأرض قاسية يحرك الأرض برأسها الحديدي حتى تصبح رخوة، حتى لا يرتد البول عليه فيصيب ثوبه من رذاذه، فإذا كانت الأرض رملية فإنها تتقبل البول ولا يرتد منه شيئاً، بخلاف الأرض الصلبة فإنها ترد وتعكس البول على ما يقابلها، والعنزة كانوا يستعملونها في أشياء كثيرة، وكما قال موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] .
وهناك سيرة أو قصة لعنزة، وهي: كان الزبير رضي الله تعالى عنه في غزوة بدر، وكان هناك رجل من المشركين يقال له: أبو ذات الكرش، لديه بنت كرشها كبير، وكان يحملها فلقب بهذا، وكان في صفوف المشركين مجللاً بالحديد من أوله إلى آخره، ولم ير منه إلا فتحة العين، وكان مع الزبير عنزة، قال: فصوبتها على فتحة العين فأصابته وصرع منها، قال: فجئت لآخذ العنزة فما استطعت سحبها حتى وطئت على رأسه بقدمي، ثم انتزعت العنزة بالقوة حتى انثنى طرفاها.
على كلٍ حكاية التصويب والإصابة وقوة الضربة هذا كله شيء معروف من فروسية المسلمين، فلما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم خبرها قال: أعطنيها، فأعطاها للرسول صلى الله عليه وسلم، يقول القصة فيها: فكان صلى الله عليه وسلم يصحبها في السفر، فإذا أراد الصلاة في الخلاء ركزها أمامه -كما يقال- سترة للمصلي، وإذا أراد الخلاء ركزها ووضع عليها رداءه تستره من الناس.
ولما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى أخذها أبو بكر فكانت عنده، ولما توفي أبو بكر رضي الله تعالى عنه أخذها عمر فكانت عنده، وبعد وفاة عمر استرجعها صاحبها الأول.
قوله: (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء) .
الخلاء حقيقة وابتداءً: الأرض الواسعة الخالية من الأشجار، والخلاء يطلق على المرحاض الذي بني لقضاء الحاجة بدلاً من الخلاء في الأرض الواسعة، فـ (دخل الخلاء) تصدق على المرحاض، وتصدق على الأرض الواسعة، لكن ذكره للعنزة هنا، وأنه يحمل هو وغلام نحوه الماء يمنع أن يكون الخلاء هو المرحاض.
ابن عباس لما كان عند ميمونة رضي الله تعالى عنها، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيت الخلاء ذهب وأتى بإبريق وملأه ماء وطرحه عند باب المرحاض، فلما خرج صلى الله عليه وسلم ووجد الماء قال: (من وضع هذا؟ قالت له: ابن عباس.
قال: لم وضعه؟ قال: علمت أنك حينما تدخل الخلاء تحتاج إلى الماء.
قال: اللهم فقهه في الدين) وهذا هو الفقه -أي: الفهم- استنتج من دخول الخلاء الحاجة إلى الماء، فجهزها قبل أن يطلب منه.
والإداوة: إناء من الجلد على هيئة الإبريق تماماً، وقد رأيتها مع جماعة يمنيين في منى، وهي عبارة عن جلد سخلة صغيرة مربوط من آخر النصف الأسفل، والرقبة هي فتحة الإبريق، وإحدى اليدين هي (البزبوز) الذي يخرج منه الماء واليد الثانية هي الأذن أو اليد التي يمسكون الإداوة بها كشكل الإبريق سواء بسواء، الرجلان الأماميتان واحدة بدلاً عن (البزبوز) والثانية محل اليد، والرقبة هي عنق الإبريق، ومن الوسط إلى تحت جعل له قاعدة من نفس الجلد على شكل مستدير كقاعدة توضع على الأرض، يعني: محيط قاعدة نحو (20سم) .
ولما رأيته تعجبت، وقلت له: ماذا تسمون هذا؟! قال: هذه الإداوة.
قلت: جزاك الله خيراً، الحمد لله أننا رأيناها، كانوا يصفونها لنا في الكتاب وفي الدرس، والآن رأيناها بأعيننا طبق الأصل.
فالإداوة: إناء من جلد بقدر الإبريق البلاستيك، وكانت في القديم تصنع من التنك -ما يسمى بالزنك- فكان إناء لحمل الماء.