بعض طلبة العلم يفتش وينبش ويسأل: لماذا أهدى مائة؟ كان يكفيه شاة أو يشترك هو وستة في بدنة، قالوا: لا، هذا العدد أيضاً له تاريخ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: (أنا ابن الذبيحين) ، والمراد: أبوه عبد الله وإسماعيل عليه السلام.
أما إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ} [الصافات:102] إلى قوله: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] إلى قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] .
يقولون: إن هذا الذبح والفداء الذي نزل به جبريل هو القربان الذي كان قد قربه هابيل: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} [المائدة:27] ، هابيل قدم كبشاً كبيراً طيباً، وقابيل قدم حزمة زرع، وكان صاحب زراعة، وهابيل كان صاحب ماشية، فذاك الكبش من ذاك الوقت يرعى في الجنة، حتى نزل فداء لإسماعيل، والله أعلم، لكن هكذا يقول بعض العلماء.
وعبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً أخذ للذبح، وذلك حينما رأى أبوه عبد المطلب في المنام قائلاً يقول له: أحيي برة، وبرة هي: زمزم، وكانت جرهم لما جلت عن البيت ردمت زمزم، وهذا كالحروب العسكرية يدمرون المنشآت حتى لا يستفيد عدوهم منها، فطمسوها وبقيت مطموسة، فأتي فقيل له: أحيي برة، يعني: يحيها بنبشها، قال: وأين هي؟ قالوا: حيث ترى الغراب ينكت في الأرض، في المكان الفلاني، أي: حول الكعبة، فخرج فإذا بالغراب ينكت في محل، فبدأ بالحفر، وكلما مر عليه بنو هاشم وأهل مكة، سألوه: ماذا تفعل يا عبد المطلب؟ قال: أحفر زمزم، قالوا: كيف تبحث عن زمزم، وزمزم مطموسة، ولا أحد يعرف مكانها؟! قال: أنا عرفت مكانها، فكانوا يسخرون منه، فلما نزل بالحفر رأى طي البئر، فقالوا: زمزم ليست لك وحدك، نحن شركاء معك في زمزم، ومنعوه من إتمام الحفر حتى يشتركوا معه، وتكون زمزم للجميع، فما استطاع أن يقاومهم، فنذر لله إن رزق بعشرة بنين، وعاشوا حتى يحملوا السلاح ليذبحن واحداً منهم لله، دار الزمن واكتمل عنده عشرة من البنين، فاجتمعوا فأخبرهم بنذره، فقالوا: وف بالنذر، قال: من أذبح؟ قالوا: اختر، فاستهموا، فكان السهم على عبد الله، فأخذه ومضى ليذبحه، فقامت قائمة قريش، وكان عبد الله أحب أبنائه لأهل مكة، فقالوا: لا والله! لن تذبحه، قال هذا الذي وقع عليه السهم، قالوا: لا، أبداً، فاحتكموا إلى عدة أشخاص، وأخيراً احتكموا إلى كاهنة كانت في جهة الحنكية شرقي المدينة، فقالت لهم: كم دية الرجل عندكم؟ قالوا: كذا، قالت: استهموا على ولدكم مع عشرة من الإبل، فإن طلعت السهام على الإبل فانحروها وتكون فداءً له، وإن طلعت السهام على ولدكم فزيدوا الإبل عشراً وأعيدوا القرعة، فما زالوا يقترعون ويطلع السهم على عبد الله، ويزيدون حتى وصلت الإبل مائة، وحينئذ طلع السهم على الإبل، ففرحت قريش وقالوا: سلم عبد الله اذبح الإبل، قال: لا، عشر مرات وأنا أعيد القرعة ويطلع السهم على ولدي، سأعيد القرعة، فأعادها فطلعت على الإبل، ثم أعادها فطلعت على الإبل، ثلاث مرات، فذبحت الإبل فداء لـ عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان يقول: (أنا ابن الذبيحين) ، وقوله هذا: يرد على من يقول: إن الذبيح هو إسحاق، وكثير من الناس يقول هذا، ولكن التحقيق في هذه المسألة أن الذبيح حقيقة هو إسماعيل عليه السلام، واليهود هم الذين صرفوا كلمة الذبيح لإسحاق ليذهبوا بها فخراً لهم، ففدي عبد الله بمائة من الإبل، وعاش عبد الله حتى أودع الأمانة التي كان يحملها في مقرها، وذهب إلى حال سبيله، وجاءت تلك الأمانة إلى الوجود، وهي النبي صلى الله عليه وسلم، ومضى عليه من العمر أربعون سنة، ثم كانت الرسالة، وعاش ثلاث عشرة سنة بمكة، وعشر سنوات بالمدينة، وكل ذلك عمر الرسالة، فلما حج أهدى مائة من الإبل، وكأنه يقول: لئن فدي أبي بمائة من الإبل أن تذبح للأصنام، فأنا أذبح مائة من الإبل لوجه الله تعالى، وهكذا يربطون بين هذا وبين ذاك، وكما ربطوا بين نزوله في المحصب وهي المعلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل من منى بات هناك، وتجدون في كتب الفقه والحديث خلافاً في هذا: هل كان هذا النزول من النسك أو كان على سبيل الإرفاق بالناس حيث يبيت في أول مكة بدلاً من أن يدخل في الليل مكة ويتعب أصحابه، وهذا أخف عليهم عند خروجه إلى المدينة؟ قالوا: لا، لقد كان هذا النزول متعلقاً بحدث وقع في أول الأمر وهو: أنه صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى التوحيد كتبوا الصحيفة الظالمة على مقاطعة بني هاشم، وألجئوهم للدخول إلى الشعب، وتلك الصحيفة كتبت بظلم في ذلك المكان، في خيف بني كنانة، فكأنه صلى الله عليه وسلم يقول: لئن شهد هذا الخيف كتابة صحيفة ظالمة فليشهدن نزول الأمة الإسلامية بعد نزولها من الحج، وتكون ليلة مباركة تمحو آثار تلك الليلة الظالمة.