قال رحمه الله: [وعن ابن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه) رواه الدارقطني، وصححه الحاكم، وأخرجه أبو داود مرسلاً، ورجح إرساله] .
قضية معاذ مشهورة في عهده، وكان من خيرة شباب قومه وأكرمهم وأسخاهم يداً، فكان يستدين ليكرم الناس، وكان أكثر دائنيه من اليهود، فطالبوه بدينه فلم يستطع أن يقضيهم، ولم يواجه الناس وذهب مباشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهم اشتكوه إليه، فقال: ما عندي ما أسدد ديونهم، فليأخذوا ما عندي، فحجر النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وباع ماله، وكان من طريقته صلى الله عليه وسلم أن يوصي الغرماء بالحط من الدين، فينبغي عند المطالبة بالدين، وكثرة الدين على المدين أن يوصى الدائن بأن يسقط من الدين شيئاً، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان في حجرته، فسمع لجاجاً في المسجد فخرج عليهم وقال: ما هذا؟ فقالوا: فلان يطالب فلاناً بدين عليه، فقال: يا فلان! حط من دينك، فحط من دينه الشطر، فقال للآخر: قم فاقضه) ، وهكذا ينبغي لمن حضر عند خصومة الغرماء مع غريمهم أن يتوسط بالصلح، وبإسقاط شيء من الدين، حتى في المحكمة يحق للقاضي أن يعرض على الدائن أن يسقط من الدين شيئاً.
وفي الآونة الأخيرة صارت الدولة تسدد عن بعض المعسرين، وهناك شروط يشترطونها إدارياً، والقاضي يساعد على هذا بأن يوصي الدائن أن يسقط شيئاً من دينه، والدولة تسدد الباقي، وهذا من باب التعاون فجزاهم الله خيراً.
فعلى هذا: إذا كان الدائن يرى أن المدين ليس قادراً على سداده فينبغي الإرفاق به، كما جاء أيضاً في حق المكاتب، فالمكاتب أمر الله سبحانه بأن يعطى فقال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] ، قالوا: بأن يسقط عن المكاتب بعض الأقساط، ولو الأخير أو ما قبل الأخير، وكل ذلك مساعدة له في وفاء الدين الذي عليه.
والرسول صلى الله عليه وسلم طلب من غرماء معاذ أن يسقطوا من الدين، فقالوا: لا، وكان هذا الطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم في محله بالنسبة لـ معاذ، وبالنسبة لأصحاب الدين؛ لأن الدائن موسر يريد أن يستلم ويقبض ماله، والمدين ما عنده ما يسلم، فالدائن أحق بأن يخاطب بأن يترك شيئاً من الدين، وأن يرفق بالمدين ويخفف عنه، قالوا: إنهم لم يقبلوا طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يهود، وقد جاء فيهم حديث عائشة (أنه بلغها أن رجلاً جاء بخز من الشام فقالت: يا رسول الله! لو أرسلت إليه لتشتري منه ثوبين إلى ميسرة، فأرسل إليه فامتنع) !! امتنع أن يداين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قالوا: إنه يهودي، ولم يتسامح في ذلك، وهؤلاء لم يتسامحوا مع معاذ، وقال الراوي للحديث: لو أحد من اليهود أسقط شيئاً لأحد لكان أولى الناس بذلك معاذ لطلب رسول الله، فلما لم يقبلوا لم يلزمهم؛ لأن هذا حقهم، وهذا من العدل والإنصاف والمساواة في الحكم، ومن مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه لم يستعمل سلطته ولا مكانته أمام اليهود حيث أنه طلب منهم أن يسقطوا شيئاً من دين معاذ ولم يقبلوا، فهم أحرار، ولم يغصبهم.
لكنهم قالوا: بعه لنا! وبيع المدين بسبب دينه كان إلى عهد قريب في القوانين الأوروبية، كان الرجل يباع في دينه، أو يباع أحد أولاده، وكانت المزارع إذا بيعت بيع معها العمال الذين يعملون فيها، فقالوا: بعه لنا، وهذا على ما عندهم من السابق، فقال لهم: (ليس لكم طريق إليه) ، وجاء الوعيد لمن باع حراً وأكل ثمنه، وكيف يبيع الحر؟ قد يتواطأ معه ويقول له: ادعي أني ملكك، ونتقاسم المبلغ، وإذا تواطؤا على ذلك فهم من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، كما جاء في الحديث.
يقولون في فقه اللغة: مادة الحاء والجيم والراء تدل على القوة والصلابة واليبوسة.
وهنا الحجر: حبس وتضييق وشدة على المحجور عليه، فلا يتصرف في ماله، وقالوا: الحجرة من الحجر أيضاً؛ لأن الحجرة ما أحيطت بالجدران، وحجرت حتى امتنع خروج شيء منها كامتناع الحجر أن يخرج منه فلتة، ومنه الحجر بحفظ الولد، والحجر في الخلاء حافظ نفسه، وكذلك الحِجر: وهو الجزء الذي خرج من الكعبة ولا يدخل في عموم الكعبة.
واحجر بمعنى: ضيق، واحجر عليه يعني: شدد عليه وامنعه من التصرف في ماله، وهذا الحجر إذا تم -كما أشرنا سابقاً- يمنع صاحب المال أن يتصرف فيه تصرفاً ينقل الملك، فلا يرهن، ولا يبيع، ولا يهب.