قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) ، رواه الدارقطني، والحاكم ورجاله ثقات، إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله] .
هذه أيضاً ناحية كانت تقع ولا زالت عند كثير من الناس؛ يقترض الدين إلى أجل، ويقدم المقترض الرهن، فإذا جاء الأجل ولم يسدد امتلك المرتهن الرهن، ويجيء صاحبه بعد فترة ويقدم الدين، فيقول له: أنت لم تسدد، والرهن صار مكان الدين.
هذا لا يجوز، فمهما طال الزمن لا يغلق الرهن، ولا ينسد عليه باب تسديد الدين واسترجاع العين المرهونة، فإذا طال الزمن وجاء الموعد قال له: هذا ملكك رهن، ولي عندك الدين، فإن عندك استطاعة أن تسدد ديني وتأخذ رهنك، فنعم، وأنا ما طلبت الرهن إلا توثيقاً لحقي.
ماذا نفعل؟ يعرض المسألة على الحاكم، والحاكم يكلف من يبيعه بالمزاد العام على ملأ من الناس حتى لا يكون هناك هضم للحق، ولا تواطؤ فيه، كم دينك؟ مائة.
بكم بيع الرهن؟ مائتين، إذاً: خذ حقك ورد الباقي لصاحبه، الدين مائتان والرهن بيع بمائة، كم بقي لصاحب الدين؟ مائة، إذاً: الرهن نزلت قيمته ولم يسدد الدين، أيضاً لا نقول: إن قيمة دينك في الرهن، لا.
بل نبيع الرهن بما يساوي في يوم السداد، إن زاد عن الدين دفعنا الزيادة لصاحبه، وإن نقص عن الدين صار في ذمة صاحبه؛ إما أن يدفع أو أن يكون ديناً عليه.
هذا معنى قوله: (لا يغلق الرهن) .
أما ما ينص في بعض الكتابات والعقود: إذا لم تسدد فيكون الرهن ملكاً لي، ولا حق لك في الرجوع فيه، فكل ذلك باطل؛ لأنه يأكل مال الغير بغير حق، الرهن يساوي ألفاً، ودينك مائة، لم تأكل تسعمائة؟ ليس لك حق في هذا، لك الذي يوثق دينك، والرهن موجود لتوثيق الدين، لا ضرر ولا ضرار.
كنا نسمع في بعض الأقطار المجاورة: أنهم يتخذون طرقاً للاستفادة من الدين، وحقيقة الأمر أنه دين جر نفعاً للدائن بلا شك، وله صور مختلفة، وقوالب متنوعة، وبحجة خيار الشرط والرهن؛ يأتي إلى إنسان ويقول: أبيعك هذه الدار، ولي الخيار سنة، فيأخذ البائع ثمن الدار، ويستلم الدار المشتري، ويسكنها مدة الخيار، فإذا انقضت السنة جاء البائع وقال للمشتري: أنا اخترت أن أرد البيع.
ليس هذا خيار الشرط، أنا اخترت وفكرت واشترطت سنة، فوجدت أن البيع غير نافع لي، ففسخ البيع، خذ ما دفعت ورد علي الدار، اشتراها المشتري بألف وبعد سنة رد الألف واسترد الرجل داره، وسكنى الدار سنة استغلها المشتري بتواطئ بينهما، كأنه أقرضه ألفاً واسترجعه بعد سنة، ومع القرض سكن الدار، وكان عليه أن يقدر بكم تؤجر الدار في السنة، ويخصمها من الألف.
كذلك الرهن: أرهنك البستان، الدار، السيارة، أي شيء له دخل، ومدة وجود الدين سنة أو سنتين أو أكثر أو أقل والمرتهن يستغل العين بفوائدها.
وكنا نشاهد هذا في الأراضي الزراعية، والبيوت؛ فلان رهن بيته، أو أرضه، وإذا بقيت في يد الراهن لا مانع، لكن تكون ممنوعة من البيع والشراء.
أما إذا سلمت للمرتهن وصار يستغلها فتلك الغلة هي المنفعة التي جرها القرض، لكنهم ما جعلوها في صورة قرض جر نفعاً، لا؛ بيع ورهن وسداد الرهن، واسترجاع العين، ولفة طويلة، وكلها تصب في: (قرض جر نفعاً) .
وهناك مباحث عديدة في موضوع الرهن والقرض، وتجدون ذلك في كتب الفقه الموسعة؛ وهي: التحذير من كل ما يمكن أن يقصد به المدين نفع الدائن بسبب الدين من الهدايا، أو أن يعمل له ما يجامله به، من أن يساعده في شيء ما كان يساعده فيه من قبل، ولذا كان يقول بعض السلف: لو أقرضت إنساناً ألف دينار، وأهدى إليك حمل تبن فلا تقبله.
وكان بعض السلف إذا أقرض إنساناً قرضاً يكره أن يجلس في ظل بيته، خشية أن يكون هذا من منفعة القرض، وهل ظل البيت يبذل فيه صاحب البيت شيء؟ لكن يقولون: الشحيح لا يرضى لإنسان أن يستظل في ظل بيته، والأولاد الصغار يفعلون هذا؛ إذا تخاصموا لا يدع الآخر يجلس في ظل بيتهم، فإلى هذا الحد كانوا يتورعون من أن يستفيدوا أدنى فائدة ممن أقرضوه مخافة أن تكون تلك الفائدة -على ضآلتها- قرضاً جر نفعاً، وكل هذا كان تورعاً، من روائح الربا الكريهة.
ولكنهم يقولون: إن كان بينك وبين المقترض علاقة سابقة؛ مثلاً: كان صديق لك، وجاء يقترض منك، وكنت قبل القرض تتبادل معه الزيارة، وتتناول عنده الطعام على حسب الضيافة أو الصداقة، ثم صار القرض، هل تمتنع؟ وقد كنتم من قبل تتبادلون الهدايا في المناسبات، فأهدى إليك هدية في مناسبة، هل تمتنع عنها؟ قالوا: يأخذها بحكم الصداقة حتى لا يقطع الصلة التي بينهم أو يسيء علاقته بصديقه، ولكن لابد أن يكافئ عليها، إما بهدية تعادلها، وإما بتقديرها وحسابها من الدين الذي له عليه، والبعض يقول: إذا أقرضته لا تدخل بيته ولا تأكل طعامه، لأنه يكارمك ويوسع لك ويخجل ويعمل ويتكلف بسبب الحمل الذي على ظهره، قالوا: هذا لا يجوز، لكن إذا كان قبل القرض هناك صلة والملاطفة والمزاورة موجودة، وتبادل الهدايا والمكارمة قائمة، فلا مانع في ذلك مادام سيحسبه ويعاوضه عليه، أما أن يأخذها هكذا ويسكت، لا.
فهذا قرض جر نفعاً.