ننتقل من السعي ووجوب البداية مما بدأ الله به -وهو الصفا- إلى الوضوء.
فلو قال قائل: كيف نتوضأ؟ وبم نبدأ؟ فالجواب: (ابدأوا بما بدأ الله به) ، والله بدأ في أعضاء الوضوء بالوجه.
ومن هنا ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا النص يدل على ترتيب غسل أعضاء الوضوء كما جاء في الآية.
وإلى هنا تمَّ التشريع، وبقي الحكم، فهل هذا الترتيب شرط في صحة الوضوء، أم أنه إذا غاير هذا الترتيب صح الوضوء؟ فالأئمة الأربعة وجمهور العلماء يقولون: لا ينبغي مغايرة هذا الترتيب.
وبعضهم يحكي الإجماع بأنه لو غاير ذلك ناسياً وصلى فلا إعادة عليه؛ لأنه أتى بالغسل المطلوب، و (الواو) في الآية لا تقتضي الترتيب.
ثم يذكرون عن علي رضي الله تعالى عنه في التيامن وفي الترتيب أنه قال: (لا أبالي غسلتُ قدميَّ أولاً أو يديَّ أو وجهي، إذا أكملتُ الوضوء) .
أما اليمين واليسار فيقولون: اليدان والرجلان كالعضو الواحد، فأيهما غسلتَه قبل الآخر تَمَّ غسلهما إذا أوقعتهما في مكانهما.
وعلى هذا لم يقل أحد بأن مخالفة الترتيب الموجود في الآية مبطل للوضوء قطعاً، إلا أنهم يجمعون على أنه السنة، ولا ينبغي تعمُّد خلاف ذلك.
وبعضهم -غير الأئمة الأربعة- يقول: إن تعمد فلا وضوء له، وإن وقع منه نسيان فلا إعادة عليه.
وإذا جئنا إلى السنة النبوية -كما يقول الشوكاني وابن القيم - فلم يؤثر ولم يرِدْ عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن الخلفاء الراشدين -سوى رواية علي، وفيها ما فيها- أن أحداً توضأ عاكساً هذا الترتيب الذي جاء في كتاب الله.
فلا ينبغي عكسه، وإذا قسناه على بداية الصفا والمروة فإننا نعتبر البداءة التي بدأ الله سبحانه وتعالى بها.
ثم من ناحية أخرى يقولون: لو نظرنا إلى أعضاء الوضوء الأربعة، فأشرفها الوجه.
فالوجه فيه خصائص تقدمه على غيره، فإذا بدأت بالوجه نزلت بالترتيب إلى اليدين، لكنك تصعد إلى الرأس ثم تنزل إلى القدمين.
ومن هنا قال الشافعي: الترتيب واجب، فمن غير الترتيب فإن وضوءه باطل.
قال: لأن الله سبحانه غاير في تلك الأعضاء بين المتشابهين أو بين القرينين، فاليدان والرجلان متناسقان، ففرَّق بينهما، فأمر بغسل الوجه، ثم بغسل اليدين، وبإمكانه أن ينزل إلى الرجلين؛ ولكنه أمر بمسح الرأس.
فمجيء الرأس بين اليدين والرجلين يدل على أن هذا محل مسح الرأس، فلا يقدَّم على اليدين، ولا يؤخَّر عن الرجلين.
ثم قال من ناحية أخرى: اليدان مغسولتان، والقدمان مغسولتان، والرأس ممسوح، فأدخل ممسوحاً بين مغسولين، فلِمَ لَمْ يجعل المغسولات كلها في نسق وجاء بالممسوح وسطهما؟ فـ الشافعي رحمه الله لهذا الأمر قال: الترتيب واجب، ويستوي فيه العامد والمخطئ، فمن نسي فأخلف الترتيب، أو تعمد فأخلف الترتيب فوضوءه باطل.
وبقية الأئمة رحمهم الله يقولون: إنما الترتيب هو الأكمل.
والشافعي هو الذي قال ببطلان الوضوء إذا اختل فيه الترتيب عن نسقه في الآية الكريمة، مستدلاً بهذا على الترتيب الموجود في وضع أعضاء الوضوء، ومستنداً أيضاً إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا بما بدأ الله به) .
والله تعالى أعلم.