إذا صح وثبت عندنا جواز الصوم في السفر، فسنرجع إلى النقطة الثانية: ما هو الأفضل؟ نجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون في ذلك، فنجد ابن عمر رضي الله تعالى عنه ورواية عن عمر يريان بأن الفطر أفضل، ويقول ابن عمر: أرأيت لو أن إنساناً أهدى إليك هدية، فرفضتها، أكان يرضيه ذلك أم يغضبه؟ قال: يغضبه.
قال: فالفطر صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته.
ونجد الآخرين يقولون: لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون معه في رمضان، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر، إذاً: يستويان.
ولكن في الحديث الذي جاء به المؤلف ثانياً أن رجلاً سأل رسول الله: إني كثير السفر، وكان يديم الصوم، وفي بعض الروايات أنه جاءه رجل هو أو غيره وقال: (يا رسول الله! إني صاحب ظهر أكريه) يعني: عندي من الإبل ما أكريه في نقل الأمتعة أو الأشخاص، وإني أحب أن أديم الصوم، وقد يصادفني الشهر وأنا في السفر، أأصوم في السفر؟ فقال: إن شئت صمت، وإن شئت أفطرت، وفي بعض الروايات يقول: (يا رسول الله! إنه قد يأتيني الشهر في الشتاء، وأكره أن أفطر في الشتاء وأقضي في الصيف، فقال: صم إن شئت) ، وفي بعض الروايات: (إني أكره أن أفطر والناس صيام، ثم أصوم والناس مفطرون، فقال: صم) ، فإذاً الأمر دائر بين الأمرين، ووقع نزاع بين رجل وبين عروة بن الزبير، فقال أحدهما: أنا أفطر في السفر.
وقال الثاني: أنا أصوم في السفر، وارتفعت أصواتهما، وهذا يقول: أنا أروي عن ابن عمر، والثاني يقول: أنا أروي عن عائشة؛ لأن عائشة كانت تصوم في السفر حتى أزلقها -يعني: أنحفها-، فارتفعت أصواتهما، وكان عندهما عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، فقال: أوه! تتنازعون في ذلك! أيهما أيسر لكما فخذا به.
وهذه القاعدة منطوق القرآن الكريم: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185] ، فإذا كان الصوم أيسر للإنسان بأن كان الصوم في شتاء، أو كان لا يحب أن يقضي وحده، أو كان لا يشق عليه؛ فالصوم أفضل، وإذا كان العكس: الحر شديد، والمشقة موجودة، والمسافة بعيدة؛ فيكون الفطر أولى، وهو منطوق قوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185] ، فمسألة: أيهما أفضل الفطر أم الصوم؟ نقول: ترجع للإنسان في حد ذاته وظروفه في سفره، فلينظر أي الأمرين أيسر عليه فليأخذ به.
وكما جاء عن أنس أنه سئل عن الصوم في السفر، فقال: الصوم أفضل عندي - وأنس من رواة حديث الفطر- فذكرت له الأحاديث والآية: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] ، فقال: كنا نسافر جياعاً، وننزل جياعاً، والآن نسافر شباعاً، وننزل شباعاً.
يعني: من قبل كان يشق علينا الصوم، والآن ليس هناك مشقة.
فإذا جئنا في الوقت الحاضر، وأراد إنسان أن يسافر السفر الذي تقصر فيه الصلاة، ويصح فيه الفطر، وركب السيارة أو الطائرة، ومن جهة الحر ومن جهة الجو فكما يقول العامة: السيارة مكيفة، والطائرة مكيفة إلى أن ينزل إلى بيته الثاني، والطعام ميسر معه أو في محل سفره حيثما نزل يجد الطعام، فليست هناك مشقة عليه تلحقه بسبب صومه، إذاً: مثل هذا نقول: الأيسر عليه الصوم.
لكن قد يكون بعض الناس مع وفرة وسائل الراحة لا يتحمل الصوم في السفر، فنقول: يفطر، ونرجع إلى مقالة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: أفضلهما أيسرهما، ويكون ذلك مرده إلى الإنسان في ذاته.
ونوصي طلبة العلم: ألا يجعلوا من هذه المسألة مصدر خلافيات، ويثيرون فيما بينهم الجدل والنقاش على أن هذا أفضل أو ذاك أفضل، ومن أراد أن يقف على ما لا زائد عليه فيه، فليرجع إلى مسند علي عند الطبري، فسيجد ما لا يقل عن مائة أثر في هذا الباب، وذكر آراء العلماء سواء من الصحابة أو من التابعين، ويفصل القول في الترجيح، وأن من قدر على الصوم فالصوم في حقه أفضل، ومن شق عليه فالفطر في حقه أفضل، والله تعالى أعلم.