قال رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه فشرب، ثم قيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام.
فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة) ، وفي لفظ: (فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينتظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب) رواه مسلم] .
أيها الإخوة الكرام! يأتي المؤلف الآن إلى مسألة عملية واقعية، صحبها الخلاف من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، وسيظل فيها الخلاف، وهي: قضية الصوم في السفر أو الفطر، وهذه القضية اهتم بها العلماء كثيراً، وابن جرير الطبري في تهذيب الآثار تكلم عنها، وأورد ما يزيد على مائة أثر مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الآثار يوردها بتعدد طرقها، وابن عبد البر في الاستذكار أطال أيضاً في التفصيل فيها، وكذا في التمهيد، والشوكاني في نيل الأوطار أورد الآثار في هذه القضية إلى حد بعيد.
والناس في هذه القضية طرفان وواسطة، فهناك من يقول: لا يصح الصوم في السفر، وهناك من يقول: الصوم في السفر أفضل من الفطر مطلقاً، وهما قولان متباعدان جداً، ويقول ابن عبد البر: جمهور علماء أمصار المسلمين على أن الصوم على من لا يشق عليه أفضل.
وكان يمكن -أيها الإخوة- أن نكتفي بذلك؛ لأنها الخلاصة والنتيجة، ولكن سأتوسع فيها نظراً لما في هذه المسألة من مباحث عديدة، والخلاف فيها أكثر وأشد ما يكون بين طلبة العلم، والعامة لا يختلفون فيها اختلافاً شديداً، العامة يأخذون بما أفتاهم المفتي، ولكن النزاع والشدة إنما هي بين طلبة العلم، وموجب النزاع عندهم ليس هو حباً في المخالفة، ولكنه اختلاف في فهم النصوص الواردة.
وهذه المسألة نص الله سبحانه وتعالى عليها في كتابه، ونص عليها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، ونص عليها الخلفاء الراشدون فيما أثر عنهم، وكذلك بقية الصحابة والتابعين.
وقد ذكرت في كتاب الله مرتين، قال الله: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:184] ، والمرة الثانية في نفس السياق: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] ، فهنا بين سبحانه وتعالى أن المريض -وفي حكمه المسافر والحامل و.
إلخ- يعجز عن الصوم، والمسافر مثله، فإذا شق عليه الصوم فله أن يفطر، وعليه عدة من أيام أخر.
ونجد قولاً غريباً يقول: إن الله أسقط صوم رمضان عن المسافر والمريض، ونقل فرضه إلى عدة من أيام أخر، فإذا صام وهو مسافر أو وهو مريض فلا يصح صومه؛ لأنه ليس من أهل رمضان، وإنما عليه عدة من أيام أخر! وهذا قول ابن حزم ومن وافقه.
والجمهور يقولون: قوله سبحانه وتعالى: ((فمن كان مريضاً أو على سفر)) هل هو للمرض وللسفر فقط أو يوجد كلام مقدر؟ يوجد كلام مقدر لولا تقديره لكان في الآية خلل يتنزه كتاب الله عن ذلك، قالوا: وما هو الكلام المقدر؟ قالوا: ومن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر.
وهذا عند علماء الأصول يسمى بدلالة الاقتضاء، أي: أن المقام اقتضى أن نقدر هذا القسم من القول ليلتئم الكلام ويصح، ومثل هذا ما في قصة موسى عليه السلام: {أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ} [الأعراف:160] ، هل المعنى: لما قلنا له: اضرب بعصاك الحجر انبجست أو فضرب فانبجست؟ فضرب فانبجست، إذاً: التقدير بحسب الاقتضاء أسلوب عربي، والقرآن جاء به.
فإذا كان الأمر كذلك، ووجدنا المريض تحامل على مرضه وصام، فبإجماع المسلمين بلا نزاع أن صومه هذا يجزئه ما عدا ابن حزم، وكذلك يقولون: المسافر إذا تحمل الصوم وصام أجزأه، وهذا على مقتضى دلالة الاقتضاء: فأفطر فعدة.
وابن حزم يأتي في نظيرها ويقول بدلالة الاقتضاء ولا يقول بها هنا! ففي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة:196] ، فهو بنفسه في المحلى يقول: ليست الفدية للمرض ولا للأذى، ولكن نقدر: فحلق ففدية.
فنقول: لماذا قدرت (فحلق) ورتبت الفدية على الحلق وليس على المرض والأذى ولم تقدر (فأفطر) في آية الصوم؟ فكما أن في محل الأذى من رأسه قدرنا فحلق، والفدية مرتبطة بحلق الرأس؛ فكذلك نقدر في الصوم، مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر مرتبة على دلالة الاقتضاء وهو (فأفطر) ، كما أنك قلت: فحلق ففدية، وهذا كلام لا غبار عليه، ولا ينبغي المكابرة فيه.
إذاً: سياق القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى جعل للمريض والمسافر أن يفطرا في رمضان، ثم بعدد أيام فطرهما يقضيان عدة من أيام أخر.
ونحن الآن في حكم المسافر فقط، فإذا سافر الإنسان وكان يستطيع الصوم، فهل عليه أن يفطر وجوباً ثم يقضي عدة من أيام أخر أم ننظر في حالة من استطاع الصوم أو لم يستطع؟ نأتي إلى أساس التشريع والتطبيق الفعلي من سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، فهذا الحديث الذي ساقه جابر مستفيض عند علماء المسلمين، جاء عن ابن عباس وأبي هريرة و.
إلخ؛ لأن هذا كان في عام الفتح في السنة الثامنة من الهجرة، وأصحاب رسول الله حوله، ومعه منهم العدد الكثير.
إذاً: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح سنة ثمان من الهجرة صائماً، وفي بعض الروايات: لعشر خلون من رمضان.
يعني: في يوم الحادي عشر من رمضان كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة للفتح، وهناك من يقول: ليال خلون.
هذا أجمل العدد، وهذا فصل العدد، والذي يهمنا أنه خرج في رمضان.
وتتفق الروايات كلها أن خروج النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وأنه خرج من المدينة صائماً، ويظل يصوم يومياً حتى بلغ كراع الغميم، وبعضهم يحدد إلى قديد -أي: بعد رابغ وقبل عسفان-، وتلك المنطقة تحتاج إلى سفر حوالى ستة أيام بالإبل، فمتى كانت مشروعية الصوم؟ في شعبان في السنة الثانية من الهجرة.
إذاً: قوله سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] كان قد مضى على نزولها ست سنوات، والمسلمون يحفظون ذلك، وبعد ست سنوات من نزولها يخرج صلى الله عليه وسلم في رمضان، فهل أوجب على نفسه الفطر ونقل ما وجب عليه إلى عدة من أيام أخر أو أخذ بقوله تعالى: ((فمن شهد منكم الشهر فليصمه)) ؟ أخذ بأصل المشروعية، وهذا أمر واضح، فمضى صلى الله عليه وسلم صائماً ومن معه من الصوام، يقول ابن عباس: خرج في عشرة آلاف مقاتل، وأنس رضي الله تعالى عنه يقول: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في بعض الغزوات، منا الصائم، ومنا المفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، إذاً: كان من أصحاب رسول الله عام الفتح من هو صائم ومن هو مفطر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصائمين، وفي مجموع الروايات التي جاءت في أحداث المسير هذا أن بعض الناس قد شق عليه الصوم، ولكن ينظر إلى فعل رسول الله، فقيل: (يا رسول الله! إن الناس قد شق عليهم الصوم، وينظرون ما تفعل، فأخذ قدحاً، ووضعه على كفه بعد العصر، ثم شرب والناس حوله ينظرون) ، وفي بعض الآثار: (فأفطروا) ، وفي بعض الروايات الأخرى أنه مر على رجل يظلل عليه تحت شجرة، فقال: (ما باله، ما مرضه؟) قالوا: ليس بمريض، ولكنه صائم، فقال: (ليس من البر الصوم في السفر) ، فأخذ البعض أنه ليس من البر الصوم في السفر مطلقاً، وأن الفطر أفضل، ومسألة الأفضلية نؤجلها قليلاً، نحن نريد الآن أن نثبت جواز الصوم والفطر، وأن الصوم والفطر متعادلان، والتفضيل يأتي من جانب آخر، فإذا ثبت صحة الصوم في السفر انتهت نصف القضية، وبقي النصف الثاني: ما هو الأفضل؟ فقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس من البر الصوم في السفر) قال العلماء: لأنه صام إلى الحد الذي أغمي عليه فيه، وفي بعض الروايات: (كانت ناقته تطرح نفسها على الشجر) أي: لم يعد يتحكم فيها، فإذا وصل الحال بإنسان في الدوخة وفي الضعف إلى هذا الحد وعنده رخصة من الله ((عدة من أيام أخر)) ؛ فهل يكون البر بأن يلحق بنفسه هذا الأذى أو أن يأخذ برخصة الله ويكون معافى مع الناس؟ وفي بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد كراع الغميم وصل إلى كديد، وكديد ماء عند قديدة -كما يقولون- قبل عسفان، فقال للناس: (لقد دنوتم من عدوكم) ، هل كانوا ذاهبين للنزهه أم حجة وعمرة أم ذاهبين للقتال؟ هم ذاهبون للقتال، وسيقاتلون أناساً في عقر دارهم، تحدٍ إلى أقصى حد، فقال: (إنكم دنوتم من عدوكم فأفطروا) ، فأصبح بعض الناس مفطراً، والبعض صائماً، ويقول أبو سعيد: لقد رأيتنا وما منا من أحد إلا ويضع الماء ويده على رأسه من شدة الحر، وليس فينا صائم إلا رسول الله وابن رواحة، فلما قال لهم: (أفطروا) أفطر البعض وظل البعض على صومه، فقيل له: (يا رسول الله! إنك أمرت بالفطر بالأمس، وأصبح البعض صائماً، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة) كما في حديث جابر، والذين قالوا: لا يصح الصوم في السف