اختلف العلماء في القبلة للصائم، فهناك من منعها كلية، وقال: من قبل فقد بطل صومه وعليه القضاء مطلقاً، وهناك من قال: القبلة ليست ممنوعة لذاتها، لو أن امرأة قبلت يد زوجها أو رأس زوجها ماذا في هذا؟ ولا شيء، لكن القبلة في محل التقبيل هي محل التماس كما يقولون، ويقولون: القبلة من حيث هي ليست ممنوعة وليست محظورة، وليست مبطلة للصوم، ولكنها منعت من باب سد الذرائع، القبلة ماذا بعدها؟ وقد قال القائل: نظرة فابتسامة فكلام فموعد فلقاء، وأظن هذا من شعر شوقي، يقول: نظرة فابتسامة فكلام فموعد فلقاء.
وما بعد اللقاء؟ الالتقاء.
فالأمور تأتي بالتدرج، وكما يقولون: بعضها يجر بعضاً، فقالوا: إن النهي عن التقبيل إنما هو من باب سد الذرائع.
والآخرون قالوا: لا، نحن ننظر إلى هذا الشخص الذي يريد أن يقبل، إذا كانت حرارته زائدة، وبمجرد التقبيل يقع منه الخطأ، فهذا نقول له: ابتعد بعيداً جداً.
ومن كانت حرارته منطفئة، وليس هناك إلا العاطفة، وليس هناك إلا المودة، فنقول: دونك! وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفاً ومرفوعاً، جاء عنه مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان في مجلس أصحابه، فجاء رجل فسأله عن القبلة، فنهاه، ثم جاء آخر وسأله عن القبلة فرخص له) ، ولهذا مالك بوب في الموطأ: باب الرخصة في القبلة، ثم جاء بعده بباب آخر: باب التشديد في القبلة.
الترخيص والتشديد! الترخيص لمن؟ والتشديد على من؟ على هذه الصورة التي ذكرها ابن عباس، وهي أنه صلى الله عليه وسلم لما منع الأول وأباح للثاني، التفت لأصحابه وقال: (لكأنكم تعجبون أني منعت الأول وأجزت الثاني؟! قالوا: إي والله -يا رسول الله- نتعجب! قال: نظرت إلى الأول فإذا به شاب فخشيت عليه، وإلى الثاني فإذا به شيخ لا يخشى عليه) .
ونقول: هذا التشريع يكون عاماً؛ لأن أحكام التشريع لا تنظر إلى الأفراد، تنظر إلى العمومات كما قال الشاطبي رحمه الله: تكون شاملة عامة، ولكن يختلف الأفراد في هذا الشمول، قد يكون شائباً ولكنه أنجح من الشباب، فإذا كان شخص في مشيبه، ولكنه في هذا الباب شباب، هل نقول: نرخص للشيوخ ونمنع الشباب على أنه شيخ وشاب أم ننظر إلى مظنة المنع في حالة الشباب؟ قد يكون شاباً عنيناً لا يصلح للنساء، وقد يكون الشيخ منجباً، ونسمع قصصاً كثيرة عن أشخاص أنجبوا بعد المائة سنة! تزوج بعد المائة وجاء بأولاد! إذاً: المسألة شخصية، التشريع عام، والتطبيق خاص، أي: جزئي من هذا العموم، وأنت أعرف بنفسك، فإذا عرف الإنسان من نفسه أنه أملك لإربه فنقول: إنه جائز.
وأبعد ابن حزم وقال: إنه مستحب؛ لأن الرسول قبل، لكن عائشة قالت: أيكم أملك لإربه؟ فلينظر الإنسان في خاصة نفسه.
جاء في بعض الروايات أن (الرسول صلى الله عليه وسلم لم يلمس وجه عائشة وهي صائمة) ، إذاً: فمتى قبلها؟! هو يمكن وهو صائم وهي مفطرة؛ لأن عائشة تأتيها الدورة، وإذا جاءتها الدورة منعتها من الصيام، فيكون هو صائم وهي مفطرة، فلماذا لم يلمس وجهها وهي صائمة؟ هذا ينبغي أن يلاحظ، هي زوجة شابة، ومع المداعبة قد تغلبها نفسها، وكما قال صلى الله عليه وسلم لما سألته المرأة: (إن الله لا يستحيي من الحق يا رسول الله! فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال: نعم؛ إذا رأت الماء) إذاً: المرأة عندها ماء، وهو يأتي بالمداعبة أو باللقاء، وإذا خرج منها وهي نائمة فتكون قد احتلمت، وعليها الغسل.
إذاً: في حالة اليقظة هي شابة، وكان الزوج يملك إربه وهي لا تملك، ويقولون في بعض كتب الأدب: الشهوة مائة جزء، تسع وتسعون للمرأة، وواحد للرجل، ولكن المرأة يمنعها حياؤها، فإذا كانت المرأة لا تستطيع مسايرة الزوج في المداعبة فيجب أن يعرف طاقتها، ويحجب عن ذلك؛ لئلا يفسد عليها صومها.
إذاً: حكم القبلة للصائم هناك من يمنع مطلقاً، ويقول: من قبل فعليه القضاء، وهناك من يبيح مطلقاً دون أن ينظر إلى شيء، بل قال: إنه مستحب كما قال ابن حزم، وهناك من يقول: ليس على الإطلاق، إنما ينظر الشخص في حالة نفسه، وكذلك المفتي يجيز للبعض بنظره واجتهاده، فتباح لمن يملك إربه، وتمنع لمن لا يملك إربه.
والله تعالى أعلم، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وبالمناسبة هذه يذكر الفقهاء أشياءً عميقة -لا أظن أن عندنا نسوة يسمعن هذا-، يذكرون تبعاً للقبلة: أنه من دواعي المؤانسة مع المرأة أن يمتص لسانها، فإذا امتص لسانها هل له أن يبتلع ريقه بعد هذا الامتصاص؟ قالوا: لا؛ لأن هذا إدخال شيء غريب إلى جوفه.
إذاً: القبلة من الخارج ليس فيها ريق، وليس فيها سائل، وليس فيها شيء، لكن إذا امتص لسانها فيحتاط، ولا يبلع الريق في هذه الحالة.
والله أعلم.