قال: (فإن غم عليكم -بشيء ما- فاقدروا له) ما معنى (فاقدروا) ؟ المعنى اللغوي يدور على معنى التضييق والقلة، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] ، فبعضهم يقول: (نقدر له) نضيق، أي: نحتاط ونصوم في اليوم الذي يشك فيه إقداراً للشهر، هذا مدلول فاقدروا وحدها، ولكن لم تقتصر الرواية على قوله: (فاقدروا) بل فسرت بقوله: (أكملوا العدة ثلاثين) .
والمؤلف جاء براوية (فاقدروا) عن عبد الله بن عمر وانتهى، وهذا عند البخاري، قال: ولـ مسلم: (أكملوا العدة ثلاثين) ، ويريد المؤلف بهذا أن قوله: (فاقدروا) مجمل يحتاج إلى تفصيل، ووجد عند مسلم التفصيل بعدد الأيام، ولهذا يقول ابن عبد البر في الاستذكار: إن من حكمة مالك وفقهه أنه لما بحث هذا الباب أورد حديث عبد الله بن عمر هذا، ثم أورد حديث ابن عباس الذي فيه: (فاقدروا له ثلاثين يوماً) ، قال ابن عبد البر: لقد ساق مالك حديث ابن عباس بعد حديث ابن عمر وأخره عنه؛ لأن فيه بيان ما أجمل في حديث ابن عمر؛ ولهذا مراراً نقول: إن من تأمل إيراد مالك للأدلة في الباب، وأمعن النظر فيها بملكة فقهية، يستطيع أن يعرف مراد مالك، فيشرح الموطأ بالموطأ، وهذه من دقة ملاحظة الفقهاء، حديث ابن عمر وحديث ابن عباس كلاهما في معنى واحد، فكان من الممكن أن يقدم حديث ابن عباس لأنه أبين، لكن قدم حديث ابن عمر الذي فيه الإجمال، وأردفه بحديث ابن عباس ليرفع الإجمال الموجود في حديث ابن عمر.
وبعض العلماء فسر كلمة (فاقدروا له) بأنه بالحساب، قدروا أي: خمنوا، وكيف يقدرون؟ قالوا: بعلم الفلك، وأجمع العلماء عل عدم حساب الصوم بالحساب إلا ما روي عن ابن سيرين، وما روي عن الشافعي قد كذبه ابن عبد البر، فقال: ما ذكر عن الشافعي أنه قال: من كان يعلم علم الحساب وثبت عنده رمضان فله أن يصبح صائماً، بناءً على يقينه بعلمه، رد ابن عبد البر هذا النقل، وقال: الذي وجدناه في كتب الشافعي خلاف ذلك.
يعني: أنه لا يقول بالحساب.
والذين يقولون: (فاقدروا له) أي: فاحسبوا له، ويذكرون قاعدة عجيبة، وهي من علم الفلك، يقولون: يقدرون لهلال رمضان إذا علموا يقيناً بهلال شعبان باليقين.
فكيف يعرفون رمضان بهلال شعبان، وشعبان يمكن يكون تسعة وعشرين أو ثلاثين؟ قالوا: القاعدة الفلكية في حركة القمر وظهوره وغيابه أنه أول ما يرى الهلال في أول الشهر يمكث في الأفق ستة أسباع الساعة، ثم في الليلة الثانية يطول مكثه ستة أسباع الساعة مرة ثانية، وفي الليلة الثالثة يزيد مكثه، وهكذا إلى الليلة السابعة، وفيها غياب القمر في منتصف الليل.
نعيد هذا مرة ثانية، يقولون في علم الفلك بالنسبة للقمر: أول ما يظهر لا يغيب حالاً، يمكث ستة أسباع الساعة، نحو الأربعين دقيقة؛ لأننا لو قلنا: تسعة في سبعة، ستكون ثلاثة وستين، وثلاثة زائدة، وإن قلنا: ثمانية في ستة ستكون ثمانية وأربعين، وتسعة في ستة بأربعة وخمسين، إذاً ننزلها ونقول: ستة في ثمانية بكم؟ بثمانية وأربعين، إذاً: ثمانية ونصف، ستة في ثمانية ونصف حوالى الأربعين دقيقة، فلنصطلح على أربعين دقيقة، فالليلة الثانية يمكث في الأفق أربعين مرتين، أي: ثمانين دقيقة، والليلة الثالثة يمكث أربعين ثلاث مرات، ويغيب في ليلة سبعة من الشهر في منتصف الليل.
ثم يظل في مكثه ستة أسباع الساعة إلى أن تأتي ليلة أربعة عشر، ويظل طيلة الليل لا يغيب، وهي ليلة بدر التمام.
إذاً: ليلة أربعة عشر يظهر القمر من أول الليل إلى آخره، وبعد أربعة عشر يتأخر طلوعه ستة أسباع الساعة، وليلة ستة عشر يتأخر طلوعه ستة أسباع الساعة -مرة ثانية- وهكذا، فكل ليلة من النصف الثاني من الشهر يتأخر طلوعه ستة أسباع الساعة عن الليلة التي قبلها، إلى ليلة ثمانية وعشرين في الشهر، ففي ليلة ثمانية وعشرين المفروض أن يرى في الصبح عند الفجر، فإن رؤي فالشهر كامل أي: ثلاثون يوماً، وإن لم ير عند الفجر ليلة ثمانية وعشرين فالشهر ناقص أي: تسعة وعشرون يوماً، فإذا علمنا بدخول شعبان وتتبعنا هلاله، وزدنا في كل ليلة ستة أسباع إلى أن يغيب في منتصف الليل في الليلة السابعة، ثم يبدأ يزيد إلى أن يستغرق الليل كله، وهي ليلة بدر التمام، ثم يبدأ في النقصان إلى ليلة ثمانية وعشرين، فإن لم يظهر فيها فالشهر ناقص، فإذا عرفنا أن شعبان ناقص فيوم غد رمضان، هكذا يقولون في علم الحساب، ولكن البعض يقول: قد يختلّ هذا النظام، ونحن لسنا مكلفين بهذا العناء، وستة أسباع الساعة نحن محتارون فيها، فكيف نتتبع ذلك طيلة الشهر، ثم نحكم بأن شعبان خرج، ورمضان جاء؟ وقد قدمنا أن اليقين لا يرفع بشك.