الصنف الثالث: من أصابته فاقة

قال: [ (ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش) ] .

الصنف الثالث الذي تحل له المسألة: شخصٌ أصابته فاقة، لا بجائحة وقعت عليه، ولكن بطبيعة حاله، كما لو كان يشتغل بالبيع والشراء والسوق ينشط ويكسد، والتجارة ربح وخسارة، فكسد بيعه وخسر في التجارة، فهو بهذا أصابته فاقة وفقر.

ومثل هذا لو عجز عن العمل في وظيفته أو صناعته فتركها، أو أن صناعته لم يبق لها سوق، واستبدلها الناس بأخرى تغني عنها، وأصبح لا يحسن شيئاً غير الذي كان يحسنه أولاً، وجاءت هذه الأشياء المستحدثة وعطلت صناعته، مثاله: ما كنا نشاهد قبل زمن من صناعة الجلود الوطنية، كالقراب، والنعال، وأشياء أخرى، والآن أصبحت هذه الأشياء مستوردة وبربع القيمة وتؤدي خدمة أكثر من الصناعات الأولى، وأصبح لا يستعمل المصنوعات المحلية إلا بعض أهل البوادي، فجاءت الآن الثلاجة، وأصبحت هذه القربة الآن -كما يقولون- من التراث القديم.

فإنسان كانت صنعته أن يعمل القراب ويبيعها، ويصنع النعال ويبيعها، وهذه صناعة وطنية، لكنها أصبحت الآن ليس لها رواج، وبالتالي يصاب صاحبها بالفاقة بسبب تعطيل مهنته.

ومثل هذا أيضاً الوراقون الذين كانوا يكتبون الكتب لطلبة العلم، فقد كسدت حرفتهم؛ لأن المطابع الحديثة الآن صارت موجودة، وهي تدفع بالكتب إلى الأسواق بكميات كبيرة.

فإذا كان هناك إنسان أصابته فاقة سواء بسبب كساد عمله وتفويت باب رزقه الذي كان معتاداً عليه، أو أن السوق هبط ولحقته الفاقة بعدم وجود الربح في سلعته أو في السوق بصفةٍ عامة، وأصبح فقيراً ذا فاقة، ففي هذه الحالة تحل له المسألة إلى أن يصيب قواماً من عيش.

كذلك هنا لا نقول: إنه قد حلت له المسألة إلى أن يعوض كل ما فقده، أو إلى أن يرجع إلى ما كان عليه في نشاط تجارته؛ لأن المقصود أن لا يبقى يتكفف الناس بالسؤال، بخلاف الزكاة؛ لأن الزكاة مفروضة له، فلو أعطي من الزكاة بدون مسألة عطاء أياً كان مقداره فلا شيء عليه، ما دام لم يتكفف الناس السؤال، ولم يرق ماء وجهه أمام الناس لما جاء عن عمر رضي الله عنه: (أنه أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عطاءه، فقال: يا رسول الله! أعطه من هو أحوج إليه مني) ، أي: أنا في غنىً عن هذا والمحتاجون كثير، فأعطه من هو أحوج مني، (فقال: يا عمر! ما أتاك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفسٍ إليه فخذه، فإن شئت تمولته، وإن شئت تصدقت به) ، أي: فأنت تملكه وليس عليك في ذلك شيء؛ لأنه جاءك من غير مسألة.

إذاً: في هذا الحديث بيان متى يجوز للإنسان أن يقوم ويتكفف ويسأل: يا فلان! أعطني، يا أيتها الجمعية الفلانية أعطيني، أنا حالي كذا وكذا، إلا أنه جاء فيه القيد في الصنف الثالث الذي أصابته فاقة.

قال: [ (حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة) ] .

نحن عندنا ثلاثة أصناف: صنف تحمل حمالة، وصنف اجتاحت ماله جائحة، وصنف أصابته فاقة، ولم يأت قيد الإشهاد من ثلاثة من ذوي الحجى إلا على من أصابته الفاقة، فلماذا جاء هذا القيد؛ وهو أن يأتي بثلاثة شهودٍ ليسوا عاديين، ولكن من ذوي العقل والفطنة والمعرفة بحياة الناس؟ وما الفرق بين الأصناف الثلاثة، حتى يشترط للثالث الذي أصابته الفاقة أن يشهد له ثلاثة من أرباب الحجى، من أهل محلته الذين يعيشون معه؟ ولماذا الذي تحمل حمالة والذي أصابته جائحة لم يطالبا بأن يقدما شهوداً؟ الجواب: الجائحة لا تحتاج إلى إشهاد عليها، فهي بنفسها شاهدة على نفسها، كإنسان كانت بساتينه قائمة والثمرة موجودة فيها، فأتت عليها رياح شديدة، فأفسدتها؛ فسيقول الناس عنه: مسكين! كسرت الرياح نخله وأطاحت بثمره؛ فهذه الجائحة بنفسها ظاهرة لا تحتاج إلى إثبات ولا تحتاج إلى إشهاد عليها.

وكذلك الذي تحمل حمالة، ليس عمله في السر، فهؤلاء أناس متنازعون، والنزاع معروف عند الجميع، فهذا جاء وأوقف النزاع، وعلم الجميع أنه كان سبب إيقاف النزاع، وأنه تحمل لهم.

إذاً: الذي تحمل حمالة، ومثله الذي أصابته جائحة لا يحتاج إلى الإشهاد؛ لأن حالته شاهدةٌ عليه وشاهدةٌ له، أما من كان ظاهره اليسر بين الناس، ويلبس كالمعتاد، ولكن شأنه في بيته لا ندري عنه، ولكنه في الواقع من الذين قال الله تعالى فيهم: {يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273] ، فهو يبعد عن نفسه منظر الفقر والحاجة؛ إعزازاً لنفسه وكرامةً لشخصه وابتعاداً عن التهم، وهو في حقيقة الأمر محتاج وعنده فاقة.

فهنا لما كانت حالة الفاقة خفية احتجنا فيها إلى إشهاد ثلاثة أشخاص معروفين من ذوي الحجى -أي: العقل- يعرفون مكسبه ومصرفه، وأن مصرفه أكثر من مكسبه، ونحن الآن نجد صوراً عديدة وكثيرة جداً من هذا الباب، ولكنها قد تكون خفية في أبناء المجتمع، فقد تجد إنساناً في الصباح وتسأله أين تذهب؟ يقول لك: أذهب إلى العمل، وفي الظهر تلقاه وتقول: من أين أتيت؟ يقول لك: من العمل، وتراه يركب سيارته وثيابه نظيفة ومتميزة، ولكن راتبه على هذا العمل أربعة أو خمسة آلاف، وعنده زوجتان وكل واحدة عندها خمسة أو ستة أولاد، ويحتاج إلى شقتين، ويحتاج إلى كذا وكذا، فماذا يصنع براتبه بجانب هذه التبعات؟ فهذا أصبح مصرفه أكثر من مورده وأصبح في فاقة، ولذلك يعطى من الزكاة؛ لأن المسكين عند العلماء من كان دخله أقل من مصرفه.

وعلى كلٍ: فهذا الشخص يحتاج إلى ثلاثة عقلاء يشهدون لله أن مرتبه كذا، وإذا كان في آخر النهار فهو يتسبب في كذا، مثلاً: يذهب يبيع ويشتري في السوق، أو يعمل سواق (تاكسي) أو يعمل عملاً حراً، فيشهدون أنهم يعرفون دخله ويعرفون مصرفه وكثرة نفقاته، وأنه ليس عنده ما يوفره، وليس عنده ما يكمل حاجة أولاده وعياله، فهذا في فاقة؛ فإذا كان مديناً فإنه يوقف الطلب عنه، وهذا ما يسمى (بإثبات الإعسار) ، إذا استدان وجاء الدائنون يطالبونه فاعتذر وقال: ليس عندي ما أوفيكم به فأنا في فاقة، ومدخلي لا يفي بمصرفي، فإذا شهد ثلاثة من ذوي الحجى على تلك الحالة أُوقف عنه الطلب، وأنظر إلى ميسرة، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] .

فهذا هو الصنف الثالث الذي يحق له أن يسأل الناس وله عليهم أن يعطوه؛ لأنه ممن يستحق، وقد يكون أولى بعشرات المرات من الشخص الذي لا تعرفه ويطوف على الناس، متخذاً المسألة مهنة.

وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سأل الناس تكثراً لقي الله وليس في وجهه مزعة لحمٍ) ، وفي قصة الرجل الذي مات وقدم للصلاة عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (هل ترك شيئاً؟ قالوا: نعم، ثلاثة دنانير، قال: ثلاث كيات من نار) ، لماذا هذا الوعيد والناس قد تترك مئات الملايين؟ والجواب: أنهم ما كانوا يتكففون الناس بالسؤال، وما كانوا يتكثرون بالمسألة، بل كانوا يعملون، وكانوا يديرون أموالهم ويربحون، ولا مانع يمنعهم فهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تصدق بقافلة بكاملها، وعثمان رضي الله تعالى عنه موَّن جيش العسرة بكامله، فهذا إذا مات كم يكون قد ترك في تركته؟ لكن هذا الرجل الذي دعا عليه صلى الله عليه وسلم بثلاث كيات من النار مقابل الثلاثة الدنانير، كان يسأل الناس، والذي يسأل الناس لا يجوز له أن يسأل إلا مقدار حاجته يومياً، فإذا مات وكفن عنده رأس مال قدره ثلاثة دنانير، فيكون معنى هذا أنه كان يسأل آخر مسائله عن غنىً؛ لأنه لديه ثلاثة دنانير، ولا يحق له أن يسأل وعنده مثل هذا.

إذاً: هذا الذي أصابته فاقة يحتاج إلى إقامة الشهادة، والشهادة فيها شهادة خاصة بأن تكون من ثلاثة من ذوي الحجى ممن يعرفون حالته، فإن شهدوا على أنه أصابته فاقة فحينئذٍ له حق المسألة، وإن كان مديناً أُوقف الطلب عنه حتى يُيسر، والله تعالى أعلم.

[ (قال: فما سواهن من المسألة يا قبيصة! سحت يأكله صاحبه سحتاً) رواه مسلم وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان] .

أي: وما سوى هذه الثلاث الحالات فما يأكله -أي ما يأخذه- صاحبه يكون سحتاً، والسحت: هو أشد ما يكون من أكل أموال الناس بالباطل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015