قال المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما: (أن امرأةً أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا.
قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ فألقتهما) رواه الثلاثة وإسناده قوي، وصححه الحاكم من حديث عائشة] .
لما أنهى المصنف رحمه الله الكلام على زكاة بهيمة الأنعام، ثم ما يخرج من الأرض، جاء إلى زكاة الحلي، وتقدم أيضاً زكاة النقدين: الذهب والفضة، وأنه ليس فيما دون خمس أواقٍ من وَرِقٍ صدقة.
وتقدم البحث في هذه الأصناف، وفي أنواع بهيمة الأنعام ما اتفق عليه وما اختلف فيه، ثم أنواع الزروع والثمار، وما اتفق عليه أيضاً وما اختلف فيه، ثم زكاة النقدين: الذهب والفضة، وبقي معنا عروض التجارة، وسيأتي في سياق هذا الحديث.
فلما كان الذهب والفضة مجمعاً على زكاتهما نقداً؛ لأن كلمة (أواق) جمع (أوقية) ، والأوقية وحدة وزنية، ووحدة نقدية أيضاً، فهذا يتعلق بالفضة، والدرهم وحدة وزنية، ووحدة عددية؛ فكان الحلي من جنس الذهب والفضة، ولكنه اختلف فيه كما اختلف في بعض أفراد الأجناس المتقدمة.
فشرع المصنف يُفصِّل أو يسوق ما عنده من أدلة أو من أقوال العلماء فيما يتعلق بالذهب والفضة إن كان مصوغاً حلياً تلبسه النساء، فأتى بالحديث: أن امرأةً يمانية أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان -والمسكة هي ما يسمى الآن بـ (الأسور) أو بـ (بالخلخال) في الرِجِل من ذهب- فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم، سألها: أتؤدين زكاة هذا؟، فـ (هذا) اسم إشارة راجع لما فيه الحديث وهو المسكتان.
وفي بعض الروايات: (غليظتان من ذهب، فقال لها: أتؤدين زكاة هذا الذهب الذي في يد ابنتك؟ قالت: لا.
فقال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيام بسوارين من نار؟) .
أعتقد أن هذا أسلوب إثارة، أي: أتحبين أن تلبسي سوارين من نار يوم القيامة؟! ومن يحب هذا؟! ومن يسر بهذا؟! ففيه الإثارة إلى معرفة الواقع وبراءة الذمة حالاً، ولهذا كان الجواب أنها خلعتهما من يد ابنتها وألقت بهما، وفي تتمة الرواية: (قالت: هما لله ورسوله) .
هذا الحديث كما ساق المصنف تصحيحه هو الأصل في مبحث زكاة الحلي، وهو الأصل للاستدلال على أن الحلي المستعمل بالفعل فيه الزكاة؛ لأنه ملبوس في يد البنت.
ثم ساق له المصنف شاهداً من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (اتخذتُ فتخات من وَرِق -الفتخات جمع فتخة وهي ما يسمى الآن بالخاتم- فنظر إليهما صلى الله عليه وسلم وقال: ما هذا يا عائشة؟! قالت: صنعتهما أتزين لك بهما) ؛ لأنه إذا كانت هذه الفتخات في الصندوق أو مرفوعة للحاجة لم تكن زينة، إنما رأى بعينه وسأل وأجابت: (أتزين لك بهما، فقال: أتؤدين زكاتهما؟ قالت: لا.
قال: هما حَسبُكِ من النار) .
وسيأتي لـ أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها: (اتخذت أوضاحاً من ذهب) ، الأوضاح من الوضاحة والظهور، والذهب له بريق ووضوح، ولو كان حتى من الفضة فلها أيضاً وضوحٌ وبريق، والأوضاح كانت في شعرها.
تقول: (فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدتُ في وجهه الأثر) أي: أنه ليس براضٍ؛ فهي صنعتهما من أجله صلى الله عليه وسلم، لكن لم يستقبل ذلك بابتسامة أو بشاشة، وإنما وجدت في وجهه الكراهية، ففطنت فقالت: (أكنزٌ هو يا رسول الله؟!) (هو) ضمير راجع إلى الأوضاح التي في شعرها.
فلم يقل لها صلى الله عليه وسلم لا، أو نعم، وإنما قال: (إذا أديت زكاته فليس بكنز) يعني: وما لم تؤد زكاته فإنه كنز، والحكم على أنه كنز أو ليس بكنز إنما هو لمدلول الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ} [التوبة:34] .
إذاً: فلما رأت الكراهية في وجهه صلى الله عليه وسلم فطنت فسألت: ولِمَ الكراهية وإنما هي زينة تتحلى بها لزوجها.
إذاً: هذا القدر ليس فيه كراهية، ولكن الخوف من كونه دخل في معنى الكنز، ويكون هناك الوعيد.
فلما سألت أجابها: (إن كنتِ تؤدين زكاتها فليس بكنز) .
هذه النصوص الثلاثة التي ساقها المصنف رحمه الله هي عمدة من يقول بوجوب الزكاة في الذهب والفضة حلياً كان أو غير حلي، ويضاف إلى هذا أيضاً ما تقدم في أول الباب من الحث على الصدقات والزكاة في جميع الأموال.
وتقدم لنا ذكر الحديث الطويل: (ما من صاحب إبلٍ لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاعٍ قرقرٍ، تطؤه بخفافها وتعضه بأنيابها، فإذا انتهى أخراها أعيد عليه أولاها حتى يقضى بين الخلائق، فيرى مصيره إما إلى الجنة وإما إلى النار) ، وكذلك ذكر صاحب البقر، ثم صاحب الغنم، ثم صاحب الذهب فقال: (وما من صاحب ذهب -أتى باسم الجنس، ولم يفصِّل بين مصنوع حلي أو آنية مستعمل أو غير مستعمل لا يؤدي زكاته إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّح له صفائح من نار، فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره حتى يفصل بين الخلائق، ويرى مصيره إما إلى جنة وإما إلى نار) ، فأخذ البعض من هذا الحديث أن زكاة الذهب واجبة مطلقاً، مع النصوص الأخرى المجمع عليها في غير ما هو حليٌ مستعمل.
والتفصيل في هذه المسألة يطول، وقد كتب والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه عند هذه الآية الكريمة: (َالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) فأطال البحث فيها على عادته في أضواء البيان، فذكر أقوال الموجبين للزكاة، وأقوال المانعين من الزكاة، وأخيراً قال: (والأولى الذي به براءة الذمة أن يزكى) ولم يقل: يجب أو لا يجب.
وصنيع ابن رشد في البداية الذي هو مقرر في الجامعة ما تناول هذه المسألة إلا في سبعة أسطر -أي: نصف الصفحة فقط- وذكر مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله، ولم يذكر مذهب أحمد لا بقليل ولا بكثير، فاخترت هذه المسألة بالذات لأجعل فيها مبحثاً نموذجياً لدراسة بداية المجتهد، واستوفيت المذاهب الأربعة بما فيها أحمد، وأخذت من كلام والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه، وما تيسر من المراجع الأخرى وجعلت فيه رسالة، وأخيراً طبعتها بعنوان: (زكاة الحلي) .