تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (شكا الناس إلى رسول الله قحط المطر، فأمر بمنبر) .
ابن القيم رحمه الله يشكك في كلمة المنبر، وابن حجر في فتح الباري يقول: كان ذلك سنة ستٍ من الهجرة في رمضان، والمعروف في تاريخ المنبر أنه صنع سنة ثمان من الهجرة، فالله تعالى أعلم، ولهذا يقول بعض العلماء: إن صح الحديث وإلا ففي النفس منه شيء.
فأمر بمنبر وخرج، أي: خرج من المدينة إلى المصلى ليستسقي للناس هناك.
قالت: (فقعد على المنبر (القعود على المنبر ليس في حالة الخطبة؛ لأن الخطبة إنما يكون الخطيب فيها قائماً، فبعضهم يقول: قعد ليدعو، وبعضهم يقول: خطب قاعداً وبعضهم يقول: قعد ثم قام وخطب قائماً.
ويهمنا أنه صلى الله عليه وسلم وعد الناس يوماً يخرجون معه فيه، وفي ذلك اليوم، أمر بالمنبر فأخرج إلى المصلى، وخرج الناس معه، فقعد على المنبر.
قالت: (فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمد الله) .
هناك من يقول: التكبر في صلاة الاستسقاء كالتكبير في العيدين، سبع في الأولى، وخمس في الثانية وبعضهم يقول: كبر مرة واحدة، ولم يأت هنا عدد، فيحمل الحديث على حديث ابن عباس المتقدم: (كما يصلي في العيد) .
قولها: (وحمد الله) يقولون: هذا افتتاح الخطبة بالحمد؛ لأن السنة في ابتداء الكلام إما بـ (باسم الله) ، وإما بحمد الله، أو بهما معاً، فهنا بدأ بحمد الله، وفي الحديث: (كل أمر ذي بال لم يبدأ بحمد الله -أو لم يبدأ باسم الله- فهو أجذم، وفي رواية: أقطع، وفي رواية: أبتر) يعني: ناقص.
(ثم قال) يخاطب الناس: (إنكم شكوتم جدب دياركم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم) .
يبين ويذكّر العباد بما جاء عنه سبحانه وتعالى من أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ، وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: (والله إني لا أهتم لإجابة الدعاء بقدر ما أهتم بإلهامي الدعاء) .
لأن الإجابة وعد من الله، فقد قال سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فبقي الدعاء منا، فنحن نهتم بأن يلهمنا الله الدعاء أكثر من اهتمامنا بأن يستجيب الله لنا؛ لأنه وعد بذلك.
قالت: (ثم قال: الحمد لله رب العالمين) بعد أن أمرهم بأن يتوجهوا بالدعاء قال: (الحمد لله رب العالمين) ، وهذه فاتحة سورة الفاتحة، وقرأ صلى الله عليه وسلم من سورة الفاتحة جملة: (الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين) .
يقول بعض العلماء: في هذا الحديث ترجيح إحدى القراءتين؛ لأنه قرئ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ، وفي الأخرى: (ملك يوم الدين) ، وهي قراءة مالك، فقالوا: في هذا الحديث قرأ صلى الله عليه وسلم (مَالِكِ) بمد الميم، من الملك.
وقد يقول المالكية: ومن الذي يحتم بأنه أراد القراءة، ربما أراد الافتتاح أيضاً، والله تعالى أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا إله إلا الله يفعل ما يريد) .
هذا التسليم والتفويض لله؛ لأنه الإله الخالق الرازق المدبر: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] يعني: أراد القحط فوقع القحط، ويريد الخصب فيأتي الخصب، فلا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه.
ولهذا يقولون من باب التندر: إن عمرو بن عبيد -وهو من رؤساء القدرية- جاءه أعرابي وقال: إن حماري قد ضاع فادع الله لي أن يردها.
فرفع يديه وقال: اللهم إن حماره سُرق ولم ترد أن يُسرق، فقال: يا هذا! امسك عليك دعاءك، والله لئن كان سرق ولم يرد أن يُسرق فقد يريد أن يرد ولا يُرد عليّ، أمسك عليك دعاءك.
فقوله: (لا إله إلا الله يفعل ما يريد) يدل على أنه إن أراد خيراً فعل ولا أحد يرده، وإن أراد شراً فعل ولا أحد يدفعه، فلا يسوق الخير إلا الله، ولا يرد الشر إلا الله.
وقوله: (اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت) .
(اللهم) بمعنى: يا الله.
والميم في الآخر بدل عن الياء في الأول، والياء ياء النداء.
وقوله: (أنت الله لا إله إلا أنت) أي: أنت الفعال لما يريد، ولا إله إلا أنت، ولا غالب لما أردت.
وقوله: (أنت الغني ونحن الفقراء) هذا هو التضرع، فأنت الغني بيدك خزائن الملك وملكوت كل شيء، ونحن الفقراء لا نملك شيئاً إلا ما أتانا من عندك، وهذه هي الضراعة، وهذا هو الالتجاء إلى الله، كما تقدم أنه خرج متبذلاً متخشعاً متواضعاً، وهنا يظهر الفاقة والحاجة لرب العالمين، ويعترف بأن الغنى المطلق هو لله سبحانه وتعالى.
قوله: (أنزل علينا الغيث) أي: ما دمت غنياً ونحن فقراء عاملنا بفقرنا، وأعطنا من غناك، وأنزل علينا الغيث؛ لأنه من عندك.
قال: (واجعل ما أنزلت) ، ولم يكن الغيث نزل عند كلامه، ولكنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنزلت) لأنه صلى الله عليه وسلم موقن بمجيء الغيث، وكأنه قد نزل بالفعل.
قال: (واجعل ما أنزلت علينا قوة وبلاغاً) : قوله: (قوة وبلاغاً) أي: لا بطراً ولا هلاكا، ً والبلاغ والبلاغة والبلوغ: الشيء الذي يُبَلِّغُكَ الغاية التي تريدها.
أي: اجعل ما أنزلت من الغيث قوة لنا، وقد يقال: وهل الغيث فيه قوة؟ والجواب: الغيث مطر ينزل، ولكن المراد: اجعله سبباً لما ينشأ عنه من إحياء الأرض وإنبات النبات وإيجاد الثمار التي تكون قوة لنا.
قال: (وبلاغاً إلى حين) أي: ليس طغياناً نطغى به، كما قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] ، ولكن اجعل ما أنزلته علينا قوة لنا في ديننا ودنيانا نستعين به على ما تحبه وترضى وقوله: (إلى حين) أي: إلى أجل.