وأما اعتزال الحيض فلأنهن لا يصلين، وكأن أم عطية تقول: الحائض لا تدخل المسجد، وهذا واحد من عشرة أو اثني عشر حكماً تتعلق بالحيض، فالحيض يمنع المرأة من عدة أشياء، فبعضهم ذكر أنها عشرة، وبعضهم ذكر أنها اثنا عشر، وبعضهم ذكر أنها خمسة عشر.
أما المكث في المسجد فممنوع؛ إذ قد أجمعوا على منع الحائض من المكث في المسجد.
وأما مرورها إن كانت لها حاجة، فقد استدلوا له بحديث عائشة رضي الله عنها -وغيرها من أمهات المؤمنين- أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد قال لها: (ناوليني الخمرة) وهو في المسجد -والخمرة: شيء يشبه السجادة من خوص النخل- فقالت: إني حائض، قال: (حيضتك ليست بيدك) وهذا بخلاف الأحناف القائلين: الحيضة حلت في اليد فلا تمس المصحف.
والذي يهمنا أنها جاءت بالخمرة ودخلت وناولت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا قالوا: مجرد العبور جائز إن وجدت حاجة، فلو أن الحائض تمشي في الطريق ولحقها ما يؤذيها، ولم تجد فراراً إلا إلى المسجد فدخلت المسجد، وخرجت من الباب الثاني فلا مانع.
وأما حديث: (إني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب) فقد اتفق العلماء على أن الشخص إذا أجنب وكان الماء في المسجد كما هي حالة الناس سابقاً، فله أن يدخل ليأخذ ماءً من بئر المسجد ليغتسل، إذا لم يجد غيره.
فمما يمنع منه الحيض ما سبق.
وكذلك يمنع الوطء؛ لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] ، وكذلك يمنع الصلاة، وبعضهم يناقش هنا فيقول: هل يمنع الحيض فعل الصلاة، أو يرفع وجوب الصلاة؟ وهذه ناحية أصولية ليس لنا شغل بها، وأحسن من ناقشها الباجي لمن يريد أن يرجع إليه، فيمنع فعل الصلاة ولا تصح منها، وهي آثمة إن تعمدت فعلها، وكذلك صحة الصوم، والمباشرة فيما دون الفرج على خلاف، وحمل المصحف ومسه، وقراءة القرآن -وهذه عند المالكية فيها نقاش- والطلاق، والاعتكاف، فكل ذلك تمنع منه الحائض بسبب الحيضة، وأم عطية رضي الله تعالى عنها هنا إنما نصت على اعتزال المصلى.
فهذا الحديث فيه جوانب عديدة، ولعل ما أوردناه فيه الكفاية، وبالله تعالى التوفيق.
وكون الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بإخراج النسوة ومعهن الحيض، يشعر بمغايرة معاملة الحائض في الإسلام عما كانت عليه من قبل، إذ الرسول صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود إذا حاضت فيهم المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يعاشروها، ويخرجونها من محلها إلى محل تنزوي فيه، حتى الإناء الذي تأكل فيه ما كانوا يأكلون فيه، والقدح الذي تشرب منه لا يشربون منه، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) ، حتى قال اليهود: هذا الرجل ما ترك شيئاً إلا ويريد أن يخالفنا فيه.
فهنا تخرج مع الجميع، ولا تنعزل في بيتها، ولا تنعزل عن أهل بيتها ومخالطتهم، بل تخرج مع عموم نسوة المسلمين إلى المصلى، وتشهد بركة ذلك اليوم، وتشارك في الدعاء؛ لأن الحائض وإن منعت من قراءة القرآن لكنها لا تمنع من الذكر والتحميد والتسبيح، والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، والدعاء والاستغفار، فهي تشارك في هذا كله، كما قال لـ عائشة: (اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) ، والحاج يلبي ويذكر ربه.