قال: [والله أسال أن لا يجعل ما علمنا علينا وبالاً] .
هذا دعاء خير نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن لا يجعل ما علمنا وبالاً علينا، وهذا عياذاً بالله من علم ولم يعمل، أو عمل بنقيض ما يعلم.
والله سبحانه وتعالى قد بين أقسام الناس تجاه العلم والعمل في أعظم سورة في كتاب الله، وعند أعظم مسألة يسألها العبد ربه، وفي أعظم موقف يقفه الإنسان وهو في الصلاة بين يدي الله حينما يقرأ الفاتحة، ويقدم المقدمة العظيمة ويعلن فيها الحمد لله سبحانه، ويقر لله بربوبيته للعالمين، ثم يصفه بصفات الجلال والكمال: (الرحمن الرحيم) ثم يقر بالبعث والجزاء، وأن الملك في ذلك اليوم لله وحده، ثم يقر ويعترف ويذعن: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] بأنه لا يعبد غيره، ولا يستعين بسواه، وبعد هذا الثناء الجميل كله يسأل الله تعالى ويقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، فهي أعظم مسألة في أعظم موقف بعد أعظم مقدمة.
ولهذا جاء في الحديث: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال الله: أثنى علي عبدي.
فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل) .
(إياك نعبد) هذه لله سبحانه، (وإياك نستعين) هذه للعبد، (ولعبدي ما سأل) وهو قوله: (اهدنا) ، وقد بين سبحانه هذا الصراط بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، والاستقامة ليست مجرد الاعتدال على خط معتدل كالسهم، فكل من سار على منهج معين لتحقيق غاية فهو المستقيم.
ويقول علماء الأدب والاجتماع: الاستقامة وسطٌ بين طرفين، وسطٌ بين طرفي الإفراط والتفريط، فقالوا مثلاً: الشجاعة وسطٌ بين التهور وإلقاء النفس إلى التهلكة وبين الجبن وعدم الإقدام، فإذا كان يلقى من هو أقوى منه أو أكثر منه ولا يجد طريقاً للعودة، فهذا متهور وليس بشجاع، فلم ينظر إلى العواقب؛ لأن الحرب كر وفر، والذي لا يقدم ولا يقاتل هذا جبان، والشجاعة أن يقدم وقت الإقدام، ويحجم وقت الإحجام.
وقالوا مثلاً: الكرم وسطٌ بين التبذير وإلقاء المال على غير وجهه، وبين التقتير وألا ينفق ولا درهماً، فإذا ما أنفق المال قليلاً كان أو كثيراً في أوجه الإنفاق كان كريماً.
ولهذا يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] ، فلا إفراط ولا تفريط، والإفراط والتفريط هو الذي وقعت فيه الأمتان السابقتان: اليهود والنصارى، قال تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، فهاتان الأمتان مفرطتان، والأمة وسطٌ بينهما، فاليهود فرطوا في كتاب الله، علموا ولم يعملوا: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46] ، {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:174] ، ويحتالون على ما حرم الله، فلما حرم الله عليهم الصيد يوم السبت ألقوا الشباك يوم الجمعة وسحبوها يوم الأحد وفيها الحيتان، وقالوا: ما عملنا يوم السبت شيئاً، ولما حرم الله عليهم شحوم الميتة جملوها ثم أذابوها وباعوها، وأخذوا الثمن وأكلوا به ما يريدون، فهذا يسمى تفريط في حق الله وفي أوامره.
والإفراط الذي وقع فيه النصارى أنهم عملوا عن جهالة، ولهذا يقول العلماء: كل من ترك العمل بما علم ففيه شبه من اليهود، وكل من عمل على غير علم ففيه شبه من النصارى، أما هذه الأمة فإنها جاءت وسطاً، وقضية تحريم الصيد معلومة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة:94] ، فحينما خرجوا في صلح الحديبية كان يأتي الصيد ويقع على ساق الفرس، وعلى سن الرمح، وتأتي الضباع وتتخلل بين أرجل الإبل، فما امتدت يد واحد إلى صيد شيء منها، أما اليهود فحينما قيل لهم: {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21] ، قالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة:22] وقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24] ، وتأتي هذه الأمة لا يساوون مع العدو أكثر من الثلث، قوم خرجوا إلى عير في بدر، وجاءهم النفير بكامل العَدد والعُدد، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه.
فقالوا: والله لن نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون، نقول: بل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك.
إذاً: كانت هذه الأمة وسطاً بين تلك الأمتين اللتين وقعت إحداهما في الإفراط والأخرى وقعت في التفريط، ولهذا لم تكن أمة من تلك الأمتين صالحة لدوام الرسالة فيها، فنقل الله الرسالة من بني إسرائيل من الشام إلى الحجاز، وجاء بإسماعيل عليه وعلى نبينا أفضل صلاة وسلام، وكان من دعوة إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة:129] الآية، وكانت نشأة الدين من جديد في الجزيرة العربية.
إذاً: في هذا الكتاب المبارك يدعو المؤلف في النهاية أن يجعل الله سبحانه وتعالى ما علمناه حجة لنا، لا أن يكون حجة علينا.
قال: [وأن يرزقنا العمل بما يرضيه سبحانه وتعالى] .
آمين.
والله أسأل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح المتقبل، وبالله تعالى التوفيق.