منذ أمد بعيد قننت الأحكام في مجلة الأحكام العدلية، وصار عليها قضاة الدولة التركية، واعتنى بها الناس من مسلمين وغيرهم، وشرحت هذه المجلة من قبل جمع من المسلمين، ومن النصارى، شرحوا هذه المجلة؛ لأنهم يحتاجون إلى مثل هذه الأحكام، يحتاجون إلى توضيحها؛ لأن جلهم من المحامين، والأصل أن القضاء يناط بأكفاء يجتهدون في القضايا، والقضايا لا يمكن حصرها، فهي متجددة، فيوكل النظر فيها إلى اجتهاد القضاة؛ لأن فيها ما يمكن وجوده في كتب المتقدمين، ومنها ما لا يوجد بحرفه ونصه في كتب العلماء، فيتصرف القاضي الكفء بإيجاد الحكم المناسب الشرعي لهذه القضايا المستجدة، وإذا تم التقنين فإنه لا يتسنى له أن يجتهد، وأيضاً المسائل أو القضايا المتشابهة من وجه يكون فيها اختلاف من وجوه، فكيف يحكم فيها بحكم واحد مع وجود هذا الاختلاف، ولو تشابهت من وجه آخر، أو من وجوه أخرى؟! فالتقنين لا شك أنه يقضي على الاجتهاد بالنسبة للقضاة، ويلزمهم بأحكام قد تنطبق على ما جاء في هذا التقنين، ومع ذلك هم بحاجة إلى شيء من المساحة، يتحركون فيها، وإذا وجد هذا التقنين ضيق عليهم، فمن المسائل المتشابهة قضايا اعتداء على أموال أو على أعراض، وجدت قضيتان متشابهتان في بادئ الأمر، هاتان القضيتان حكمهما واحد إذا قنن القضاء، لكن القاضي يرى من الأحوال والظروف المحتفة بقضية هذا ما لا يراه مما يحتف بقضية الثاني، وحينئذٍ يحكم بحكم واحد وإلا لا؟ من خلال التقنين لا بد أن يحكم بحكم واحد، ومن خلال الشرع لا، فالتقنين لا يسوغ.