وله من حديث أبي سعيد مثله، وهو في الموطأ مرسل، المراسيل في الموطأ كثيرة جداً؛ لأن الإمام مالك يعمل بالمراسيل، وكثيراً ما تجد الحديث مروي في الصحيح من طريق مالك موصول، وتجده في الموطأ مرسل، فالإمام مالك لا يكترث لمثل هذا؛ لأن المراسيل عنده حجة، وعلى كل حال فالحديث بطرقه العديدة يصل إلى درجة الصحيح، ومع هذا فمفاده قاعدة من قواعد الشريعة (لا ضرر ولا ضرار) فالضرر الابتداء بما يضر الغير، والضرار المجازاة على هذا الضرر بأكثر منه، بما يترتب عليه ضرر أكثر من الضرر الأول، فالضرر لا يجوز ابتداؤه؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا ضرر)) وهذا نفي يراد به النهي كما تقدم في الحديث الذي قبله، وهو أبلغ، فلا يجوز أن يصدر الضرر من أحدٍ لأحد، لا يجوز {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} [(233) سورة البقرة] فيمنع الضرر من أي جهةٍ كانت، ومن أي شخصٍ كان؛ ولأي شخصٍ كان، لا يجوز الضرر، فلا تضارر المرأة والدة بولدها، لا تضارر الأب، ولا المولود له، يعني الأب لا يضارر الأم، كما أنه لا يضارَر؛ لأن اللفظ مشترك بين الفاعل والمفعول، فإذا قلنا: لا يضارِر ويحتمل بعد الفك أن يكون لا يضارَر أيضاً، لا تضارِر ولا تضارَر، فهو من الطرفين، فلا ضرر ولا ضرار.
قد يقول قائل: إن هذا الذي بدأ بالضرر لغيره لا يختلف أحد في أنه آثم؛ لأنه مخالف ومتعدي وظالم لغيره، لكن الذي يعاقب هذا المضارر وهذا المتعدي، هل هو منهي عن هذا الفعل؟ {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [(126) سورة النحل] {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [(40) سورة الشورى] فمعاقبة الجاني ليست بمضارة، ولا تدخل في الحديث ولا في المنع، معاقبة الجاني لا تدخل في هذا الخبر بقدر جنايته، فإن زادت المعاقبة على قدر الجناية صار ضرار، فالضرر الصادر من المبتدئ حرام، الضرر الصادر من المعاقب بقدر الجريمة التي صدرت منه هذه معاقبة بالمثل {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [(40) سورة الشورى] لا يأثم فيها، لكن إذا زاد دخل في الضرار، فيحرم عليه المعاقبة بأكثر مما أوذي به، فلا ضرر ولا ضرار.