قال رحمه الله تعالى: [أما الحلول فلا ريب أن من علم شيئاً فلا بد أن يبقى في قلبه منه أثر ونعت، وليس حاله بعد العلم به كحاله قبل العلم به، حتى يكون العلم نسبة محضة بمنزلة العلو والسفول؛ فإن المستعلي إذا نزل زال علوه، والسافل إذا اعتلى زال سفوله، والعلم لا يزول؛ بل يبقى أثره بكل حال، فإذا كان مع العلم به يحبه أو يرجوه أو يخافه كان لهذه الأحوال أثر ونعت آخر وراء العلم والشعور، وإن كانا قد يتلازمان].
لا يزال يبدو لي أن الكلام فيه غموض، لكن سيشرحه الشيخ بعد كلام طويل قد ينفصل المعنى في ذهن القارئ.
فالشاهد أن الشيخ ذكر أن الحلول أحياناً يستعمل استعمالاً بعيداً، بمعنى حلول المعاني الشرعية في قلب المسلم، وحلول الأحوال القلبية في قلب المسلم، حلول العلم، اليقين، الصدق، والتصورات التي تنتج عن العلم هذه أمور يقال: إنها حلت في قلب المسلم، لكن ليس معنى هذا أننا نقر كلمة حلول على إطلاقها، إنما نقول: إذا قصد بالحلول هذا المعنى، فهو وإن كان معنى غير مستعمل فإنه يرجع إلى قصد القائل، وبعض السلف قد يستعمل هذه المعاني بمعنى حلول الأحوال القلبية في القلب، حلول الإيمان، حلول اليقين، حلول الصدق ونحو ذلك، فهذا قد يسمى حلولاً من باب التجوز، أو يستعمله بعض السلف على هذا المعنى لا على المعنى البدعي الذي هو الحلول الإلهي، أو حلول الرب في خلقه تعالى الله عما يزعمون.
قال رحمه الله تعالى: [فإذا ذكره بلسانه كانت هذه الآثار أعظم، وإذا خضع له بسائر جوارحه كان ذلك أعظم وأعظم].
يتبين هذا بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يحكيه عن ربه عز وجل في الحديث الصحيح، قال: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) إلى آخر هذه المعاني، فهذا قد يعبر عنه بعض السلف بأنه حلول، لكن ليس حلول الله، وإنما حلول توفيق الله عز وجل للعبد، بمعنى أنه يحل الإيمان واليقين الذي ينتج عنه العون من الله عز وجل والحفظ والرعاية والتوفيق من الله لعبده إذا تقرب بالنوافل، على هذا النحو الذي ذكره في الحديث القدسي، فهذا قد يعبر عنه بأنه حلول التوفيق؛ حلول الأحوال القلبية التي يمتلئ بها القلب باليقين بالله عز وجل، والإنسان إذا امتلأ قلبه باليقين بالله، وامتلأ قلبه بالإنابة والاعتماد والتوكل على الله كان ذلك بمثابة أن الله عز وجل يسدده التسديد الكامل، ويوفقه إلى كل خير، فهذا ليس حلولاً ذاتياً، ولا حلول الروح بالروح، ومع ذلك فإنا نقول: إن تسمية هذا النوع من التوفيق من الله عز وجل لعبده حلول لا تجوز، بعد وجود استعمال هذه الكلمة على معنى باطل، لوجود اللبس، إنما قد يطلقها بعض السلف ويقصد المعنى الصحيح، فمن هنا ندافع عن هذا الرجل وندفع استدلال أهل الباطل بقوله أو كلامه بأنه أراد المعنى الحق ولم يرد المعنى الباطل.
قال رحمه الله تعالى: [وهذه المعاني هي في الأصل مشتركة في كل مدرك ومدرَك، ومحب ومحبوب، وذاكر ومذكور، وسواء كان على وجه العبادة كعبادة الله وحده لا شريك له، أو عبادة الأنداد من الذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، أو على غير وجه العبادة كمحب الإخوان والولدان والنسوان والأوطان وغير ذلك من الأكوان.
فالمؤمن الذي آمن بالله بقلبه وجوارحه إيمانه يجمع بين علم قلبه وحال قلبه: تصديق القلب وخضوع القلب، ويجمع قول لسانه وعمل جوارحه، وإن كان أصل الإيمان هو ما في القلب أو ما في القلب واللسان، فلا بد أن يكون في قلبه التصديق بالله والإسلام له، هذا قول قلبه، وهذا عمل قلبه، وهو الإقرار بالله.
والعلم قبل العمل، والإدراك قبل الحركة، والتصديق قبل الإسلام، والمعرفة قبل المحبة، وإن كانا يتلازمان، لكن علم القلب موجب لعمله، ما لم يوجد معارض راجح، وعمله يستلزم تصديقه، إذ لا تكون حركة إرادية ولا محبة إلا عن شعور، لكن قد تكون الحركة والمحبة فيها فساد إذا لم يكن الشعور والإدراك صحيحاً].
ورود المعاني من العلم والتصديق واليقين والإيمان، ثم ما ينتج عن هذه المعاني من الأحوال القلبية الأخرى، هذا يسمى حلولاً بالمعنى اللغوي، أي: أن هذه المعاني حلت في القلب ونتج عنها العمل، هذه تسمية لغوية لا ينبغي أن تختلط بالحلول البدعي الذي يقصده أهل الأهواء، مثل ما يسمونه: حلول النور الموروث، أو ما يسمونه: حلول الروح، وأعظم من ذلك وأشنع: الحلول الكفري الذي هو حلول الرب بذاته في المخلوقات أو نحو ذلك مما قالوا، تعالى الله عما يزعمون.
قال رحمه الله تعالى: [قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
فأما العمل الصالح بالباطن والظاهر فلا يكون إلا عن علم، ولهذا أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بعبادة الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له ونحو ذلك، فإن هذه الأسماء تنتظم العلم والعمل جميعاً؛ علم القلب وحاله، وإن دخل في ذلك قول اللسان و