الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فحينما تعمق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسائل المشكلة والمعضلة إنما أراد في وقته أن يرد على مذاهب باطلة، ابتلي بها كثير من الناس من عامة المسلمين وخاصتهم، ولا أظن أنه كتب مثل هذه الكتابات ليقرأها عامة طلاب العلم، فلذلك كما قلت سنقف عند بعض المواضع التي أرى أنها مفيدة، وفيها مواطن للعبرة والعظة، وفيها أيضاً تسلّح لطالب العلم بالضروريات في محاربة هذه الاتجاهات وحماية النفس والأمة منها.
هنا إشارة إلى قول رأس من رءوس الإلحاد نسأل الله العافية والاتحاد وحدة الوجود، وهو الفخر الرومي، فإنه لا يقول: إن الوجود زائد على الماهية، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وفي هذه المقاطع سنمر على إشارات أشير إليها في مواطنها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا الفصل: [وأما صاحبه -أي: صاحب ابن عربي - الصدر الفخر الرومي فإنه لا يقول: إن الوجود زائد على الماهية، فإنه كان أدخل في النظر والكلام من شيخه] أي: أنه أكثر ولوغاً [لكنه أكفر وأقل علماً وإيماناً، وأقل معرفة بالإسلام وكلام المشايخ، ولما كان مذهبهم كفراً كان كل من حذق فيه كان أكفر، فلما رأى أن التفريق بين وجود الأشياء وأعيانها لا يستقيم، وعنده أن الله هو الوجود ولا بد من فرق بين هذا وهذا، فرق بين المطلق والمعين].
ثم ذكر شيخ الإسلام خلاصة مذهبه فقال: [فعنده أن الله عز وجل هو الوجود المطلق الذي لا يتعين ولا يتميز] تعالى الله عمّا يزعمون [وأنه إذا تعين وتميز فهو الخلق سواء تعين في مرتبة الإلهية أو غيرها].
هذا القول نتيجة للتعطيل الذي قال به الجهم بن صفوان وأتباعه، فإنهم لما نفوا عن الله عز وجل الذات والصفات والأفعال، ما بقي في أذهانهم وفي تصورهم عن الله إلا مجرد الوجود المطلق في الأذهان، والوجود المطلق خلاف الواقع، وخلاف الوجود الفعلي، الوجود المطلق هو مجرد ما تتوهمه العقول، ومجرد ما تتصوره الأذهان، وعلى هذا فإن الأمر يرجع إلى الإلحاد، ثم إلى وحدة الوجود، فإن هذا الرجل حينما قال بالوجود المطلق، قال: إن الوجود المطلق لا يتعين ولا يتميز، وهذا في الجملة ينطبق على الأوهام، فالأوهام لا تتعين ولا تتميز، ثم قال: (وأنه إذا تعين أو تميز فهو الخلق) يعني: حكم بأن الله عز وجل هو هذا الخلق.
وأما النوع الثاني: وهو الوجود المطلق، ما دام لم يتميز بوجود، فإنه مجرد الخيال، فالله عنده على تصورين: أن يكون خيالاً، وهذا أمر تنفيه العقول والفطر، أو أن يكون هو هذا الوجود، هذه خلاصة مذهب الفخر الرومي، نسأل الله العافية، ثم بعد ذلك رد الشيخ على هذه المقالة.
أقول: ليس المقصود هنا أن نتعرف على هذه الزبالات من أوهام البشر، نسأل الله السلامة والعافية، إنما المقصود أن نعرف حقيقة هؤلاء؛ لأنهم فُتن بهم عدد كبير من المسلمين قديماً وحديثاً؛ ولأن أصحاب رايات الاتجاهات الحديثة من العصرانيين والعقلانيين وأهل الأهواء الذين تشبّثوا بما يسمى بالحداثة والأدب وغير ذلك، وكذلك كثير من المتصوفة لا يزالون يتعلقون بهؤلاء الملاحدة، ويعطونهم صفات الولاية والتعظيم، ويصفونهم بأنهم فلاسفة الإسلام، ويعلّقون أذهان شباب الأمة بهم، وعلى أنهم القدوة، وأنهم يعتبرون من مفكري المسلمين إلى آخر مما تعرفونه من صفات التبجيل والتعظيم والتعلق بأفكارهم، لا سيما عند الحداثيين، وما أدراكم ما الحداثيون، فإنما هم الآن شجىً في حلق الأمة، وأصبح كلامهم وأدبهم ومقالاتهم تسير بها الركبان عبر وسائل الإعلام، وعبر الكتب والمؤلفات والمؤسسات الأدبية، ولذلك افتتن بهم عدد كبير من أبناءنا وأجيالنا؛ فلذلك احتجنا أن نقف عند حقيقة هؤلاء؛ ليتبصر طالب العلم ويعرف حقيقة مذاهبهم التي هي الكفر والباطل المحض كما سترون.