بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فقبل أن نبدأ أحب أن أنبه إلى أن الشيخ ذكر أنواع العلوم والفنون التي اتفق عليها والتي اختلف فيها، فذكر أن العلوم الحسية والبدهية متفق فيها بين أهل الحق وأهل الباطل؛ لأنها علوم تجريبية تقوم على العلم الطبيعي الذي لا يكابر فيه أحد، لكن الخلاف في علوم أخرى والتي منها: الأخلاقيات والإلهيات والغيبيات، وإن كانت الغيبيات تدخل في الإلهيات.
إذاً: فمواطن الخلاف ليست العلوم الحسية والبدهية؛ لأن هذين العلمين ليسا وسيلة لفهم العلوم الغيبية.
كما أن العلوم الحسية والبدهية ليسا أيضاً الطريق إلى الاستدلال بالأمور الشرعية، إنما هي أدلة عاضدة لا يمكن أن تخالف الشرع، وما صار علماً من التجريبيات والحسيات والبدهيات فهو حق، لكن لا يمكن عن طريقه فهم الغيبيات ولا إدراك الغيبيات، ولا يمكن أن يكون عن طريقه أيضاً فهم الشرائع والتوحيد.
إذاً: الخلاف يكون في الأصول الأخلاقية وفي الإلهيات وفي الغيبيات كما قرر الشيخ فيما سيأتي.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وأما الأخلاق مثل: استحسان العلم والعدل والعفة والشجاعة؛ فجمهور الفلاسفة والمتكلمين يجعلونها من الأصول، لكنها من الأصول العامة، ومنهم من لا يجعلها من الأصول، بل يجعلها من الفروع التي تفتقر إلى دليل؛ وهو قول غالب المتكلمة المنتصرين للسنة في تأويل القدر، فكان الذي أصلوه واتفقوا عليه من المعارف أمراً قليل الفائدة، نزر الجدوى، وهو الأمور السفلية.
ثم إذا صعدوا من هذه المقدمات والدلائل إلى الأمور العلوية فلهم طريقان].
سيذكر الشيخ منهج أهل السنة والجماعة متأخراً، لكن أشير إليه هنا من أجل أن نستصحب في أذهاننا الميزان الشرعي، فالشيخ سيذكر طوائف الناس في تقرير الدين: فأولاً: طريقة أهل السنة والجماعة في تقرير الدين هي الاعتماد على الوحي؛ لأن الدين دين الله عز وجل، والله هو المشرع، والدين ينبني على ما يرضي الله عز وجل، وما يحقق للبشر السعادة التامة في الدنيا والآخرة، وهذا مما لا يمكن أن تحيط به مدارك البشر على الكمال، لا يدركه إلا الله عز وجل، فلذلك أهل السنة والجماعة يقررون الحق، وهو أن الطريق لتقرير الدين جملة وتفصيلاً هو الوحي.
والآن سيذكر الشيخ طرائق المخالفين.
قال رحمه الله تعالى: [أما المتكلمة المتبعون للنبوات فغرضهم في الغالب إنما هو إثبات صانع العالم، والصفات التي بها تثبت النبوة على طريقهم، ثم إذا أثبتوا النبوة تلقوا منها السمعيات: وهي الكتاب والسنة والإجماع وفروع ذلك].
يعني: أن أهل الكلام من متكلمة الأشاعرة والماتريدية وكذلك المعتزلة وبعض الجهمية يقوم منهجهم على استخدام الأدلة العقلية لصدق الوحي، فإذا توصلوا بذلك إلى صدق الوحي؛ بدءوا هناك يقررون الوحي، لكنه محكوم عندهم بالمقررات العقلية، وأول ذلك عند غالبهم إثبات الخالق عز وجل بالمقدمات العقلية.
ثم الصفات التي تثبت بها النبوة على طريقتهم، وهذه الصفات ترجع إلى إثبات المعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم أو أي نبي، ويزعمون أن المعجزات هي الدلالة الوحيدة على النبوة، وهذا خطأ كما تعلمون؛ ولذلك بعضهم لما تناقضت عنده أدلة النبوة، خاصة عندما عجزوا عن تحديد معنى المعجزة، واختلطت عندهم المعجزة بالكرامة وخوارق العادات، وبخوارق الكهان والدجالين، لما اختلط عندهم الأمر صار عندهم ريب واضطراب في تقرير الدين؛ لأنه بُني على هذا الأصل المضطرب عندهم، وحصروا دلالة النبوة في المعجزات.
قال رحمه الله تعالى: [وأما المتفلسفة فهم في الغالب يتوسعون في الأمور الطبيعية ولوازمها، ثم يصعدون إلى الأفلاك وأحوالها.
ثم المتألهون منهم يصعدون إلى واجب الوجود وإلى العقول والنفوس.
ومنهم من يثبت واجب الوجود ابتداءً من جهة أن الوجود لا بد فيه من واجب].
يعبر الفلاسفة عن وجود الله عز وجل بكلمة: (واجب الوجود) وهذه كلمة فلسفية، وليس كل الفلاسفة يقصدون بها وجود الله على المعنى الشرعي الاصطلاحي المعهود عندنا، بل غاية ما عندهم هو إثبات الخالق؛ ولذلك يقولون: الصانع.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سايرهم في هذه العبارة ربما لإقامة الحجة عليهم، والله أعلم، وإلا فالأولى ألا تقال كلمة الصانع مجاملة لهم، ولا واجب الوجود، لكن لا يمكن لهم أن يفهموا خطابنا، والشيخ أحياناً يكتب لهم، ويقصدهم بالكتابة، أو يقصد تسليح بعض المسلمين المتمكنين من مناقشة هؤلاء باستخدام هذه المصطلحات.
فهم كثيراً ما ينزعون إلى إثبات وجود الله عز وجل تحت مسمى واجب الوجود أو الصانع أو نحو ذلك، لكن مع ذلك من منهم أثبت وجود الله عز وجل بعقله، ووقف على هذه الضرورة الفطرية؟ إنهم لا يصفون الله عز وجل بما يجب له من الكمال والجلال، بل إنهم لا يعظمون الله حق التعظيم، ويسلبونه حتى الربوبية، فإذا أقروا بوجود واجب الوجود أو الصانع كما يعبرون عنه؛ جعلوا تدبير الكون للعقول وال