قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدّس الله روحه: [بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً.
قاعدة أولية: أن أصل العلم الإلهي ومبدأه ودليله الأول عند الذين آمنوا: هو الإيمان بالله ورسوله، وعند الرسول صلى الله عليه وسلم: هو وحي الله إليه، كما قال خاتم الأنبياء: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، وقال الله تعالى له: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50].
وقال: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7].
وقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3]، فأخبر أنه كان قبله من الغافلين.
وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52].
وفي صحيح البخاري في خطبة عمر لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كلام معناه: أن الله هدى نبيكم بهذا القرآن فاستمسكوا به فإنكم].
في السنن وردت هذه العبارة عن عمر بصيغ كثيرة، اخترت منها ما ورد في البخاري، وهو أن عمر رضي الله عنه قال: قد جعل الله بين أظهركم نوراً تهتدون به، بما هدى الله به محمداً صلى الله عليه وسلم.
وفي بعض الروايات بعد قوله: إن الله هدى نبيكم بهذا القرآن أو نحو هذا اللفظ قال: فخذوا به واهتدوا، بدل فإنكم وهناك عبارات أخرى، فالقصد أنه يتم الاستدلال بهذا الشاهد الذي أورده شيخ الإسلام بهذا اللفظ وبما يرادفه من الألفاظ الأخرى.
هنا وقفات موجزة عند كلام الشيخ منذ أن بدأ.
أراد الشيخ أن يبين تقرير أول الواجبات، وأنه الإيمان بالله عز وجل، الذي هو التوحيد والهدى واتباع المرسلين، قعّد لذلك بقاعدة وهي: أن أصل العلم الإلهي ومبدأه ودليله الأول عند الذين آمنوا: هو الإيمان بالله ورسوله إذاً: هذا هو أول واجب؛ لأن هذا هو مبدأ العلم الإلهي، وهو أصله ومبعثه ومنشؤه وغايته في الجملة الإيمان بالله ورسوله.
قال: (وعند الرسول صلى الله عليه وسلم: هو وحي الله إليه) يقصد أن الرسل جميعاً هم الوسائط بين الله وبين خلقه، فالواجب على الرسل التلقي عن الله، وأن العلم الإلهي هو من وحي الله عز وجل، وأن الرسل إنما يطلبون الهدى من الله، والرسل هم مبلّغون للأمم فيكون الواجب على أتباع الرسل وعلى الذين آمنوا الإيمان بالله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد فرّق بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المؤمنين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتأتى منه أن يطيع نفسه إنما يطيع الله، فالرسول مطيع لله عز وجل، والأمة مطلوب منهم أن يطيعوا الله ويطيعوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله أمرهم بذلك.
ثم ذكر ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم من أول مطلوب من العباد، وأنهم إذا أخلوا بهذا المطلوب قوتلوا، وهذا يدل على أن هذا أعظم المطلوبات؛ لأنه لا يكون القتال إلا على أعظم الواجبات، وأول الواجبات، فالنبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر القتال ذكر أول ما يقاتل عليه الناس هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنهم إذا شهدوا بهما والتزموا بلوازمهما عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، فيكون هذا دليلاً قاطعاً على أن أول واجب من العباد يُلامون ويؤاخذون ويقاتلون إذا تركوه هو: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، لا كما يقول المتكلمون الذين زعموا أن أول واجب هو النظر والقصد إلى النظر، أو هو التفكير، أو هو التوصل إلى معرفة الله من خلال الألفاظ والمصطلحات المحدثة، والمقاييس العقلانية المعقدة، كل هذا ليس مطلوباً من العباد؛ لأن الله عز وجل كفاهم، بأن فطر عباده على الاعتراف بوجوده، لكنهم لا يعرفون الطريق إلى ما يرضي الله عز وجل إلا بالعبادة على ما شرع الله وشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر الأدلة الفرعية على هذا، منها: قوله عز وجل: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50] في هذه الآية دلالة على أن الفارق بين الضلالة وعدمها هو اتباع الوحي؛ لأن الوحي هو الطريق إلى الهدى، الذي هو أول واجب، فأول واجب على العباد أن يهتدوا بهدي الله، أن يهتدوا بالحق الذي جاء به الرسل، وهذا إنما يتم بما أوحى الله إلى رسوله.
وكذلك في هذه الآية د