قال رحمه الله تعالى: [وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحقق عبوديته؛ لئلا تقع الأمة فيما وقعت فيه النصارى في المسيح من دعوى الألوهية].
سيذكر الشيخ صوراً أربعاً من الصور العملية للعبودية التي يغفل عنها كثير من الناس، ويظنونها من باب الأحكام أو أنها من باب المنهيات أو نحو ذلك، في حين أنها من أعظم صور العبودية التي ينبغي أن تكون في أعمال الناس وفي أقوالهم، سواء كانت قولية أو فعلية.
قال رحمه الله: [حتى قال له رجل: (ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده).
وقال أيضاً لأصحابه: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، بل قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد).
وقال: (لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني).
وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
وقال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)].
الصورة الأولى: قوله: (ما شاء الله)، ثم ذكر تبعاً لذلك صوراً من صور الإخلال بجوانب العبودية، وهو قوله: (وشئت)، فـ: (ما شاء الله) تحقيق للعبودية لله عز وجل، وعطف مشيئة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره على مشيئة الله تعتبر نوعاً من الإخلال بالعبودية؛ لأنه هنا لا مشيئة مع مشيئة الله عز وجل، ولأن العطف يقتضي المساواة، ولذلك ينبغي أن يقال: ما شاء الله وحده؛ لأن المشيئة لا عطف فيها.
الصورة الثانية: قوله: (ما شاء الله وشاء محمد)، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهو قول، لكن القول لا ينبع إلا عن اعتقاد، ولذلك صحح النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول، وهو تصحيح للاعتقاد والقول.
الصورة الثالثة: متمثلة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني).
فهذا نوع من تحقيق العبودية لله عز وجل، والإخلال به إخلال بالعبودية، وعلى هذا فلا يجوز اتخاذ قبر النبي صلى الله عليه وسلم عيداً، يعني: مكاناً للتقديس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لم يعد له تصريف أو تدبير أو نفع مباشر للبشر، وإنما نفعه صلى الله عليه وسلم كان في حياته، واتخاذ قبره عيداً هو نوع من البدعة التي تؤدي إلى تعظيمه وتقديسه فيما لا يجوز إلا لله عز وجل، وحتماً سيؤدي عند الجهلة إلى دعائه من دون الله عز وجل، وممارسة الأعمال التي تخل بتوحيد الإلهية أو تنقيص الربوبية.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)؛ لأنهم في بنائهم للمساجد على القبور قد فتحوا ذريعة لتقديس القبور، ودعاء أهلها من دون الله عز وجل، والتوجه إليها بالصلاة وغير ذلك، وقد وقع ما حذّر منه النبي صلى الله عليه وسلم من أولئك القوم المبتدعة الذين بنوا وشيدوا المساجد على القبور، لذا فأهل البدع معلوم أنهم ما فعلوا ذلك إلا لأن قلوبهم قد مرضت بالبدع، حتى إن عامة الناس الذين ابتليت بلادهم بوجود المساجد على القبور ظنوا أن لصاحب القبر من القدرة ومن الأحوال التي يتصرف فيها ما لم يكن قبل ذلك، وظنوا أن لصاحب القبر اعتباراً، بل وظن بعضهم أن ذلك يعني: التوجه إليه في الصلاة، وظن آخرون أن ذلك يعني الدعاء عنده أو عند قبره، وآخرون دعوا المقبور أو المدفون من دون الله عز وجل، واستعانوا واستغاثوا به من دون الله، فوقع الشرك والبدعة من خلال ذلك، فهذا إما مناف لتوحيد الألوهية كالشركيات، أو ينقص توحيد الإلهية كالبدع والتبرك وغير ذلك، والمساجد إنما هي بيوت الله للعبادة، وهي محترمة ومعظّمة، فإذا وجد القبر في المسجد فلا يعني ذلك إلا التوجه إلى صاحب القبر بشيء من هذه الأمور الشركية أو البدعية، وهذا كما تعلمون منقص لتوحيد الله.