قال رحمه الله تعالى: [ثم الفطر تعرف الخالق بدون هذه الآيات، فإنها قد فُطرت على ذلك، ولو لم تكن تعرفه بدون هذه الآيات لم تعلم أن هذه الآية له، فإن كونها آية له ودلالة عليه، مثل كون الاسم يدل على المسمى، فلا بد أن يكون قد تصور المسمى قبل ذلك، وعرف أن هذا اسم له، فكذلك كون هذا دليلاً على هذا يقتضي تصور المدلول عليه، وتصور أن ذلك الدليل مستلزم له، فلا بد في ذلك أن يعلم أنه مستلزم للمدلول، فلو لم يكن المدلول متصوراً لم يعلم أنه دليل عليه، فمعرفة الإضافة متوقفة على تصور المضاف والمضاف إليه، لكن قد لا يكون الإنسان عالماً بالإضافة ولا كونه دليلاً، فإذا تصوره عرف المدلول، إذا عرف أنه مستلزم له، والناس يعلمون أن هذه المخلوقات آيات ودلائل للخالق، فلا بد أن يكونوا يعرفونه، حتى يعلموا أن هذه دلائل مستلزمة له].
يقصد الشيخ هنا أن دلالة الفطرة على وجود الله هي الأصل، وأن ما ينضاف إليها من الآيات الكونية الدالة على وجود الله وصفاته، والاستدلال بآيات الله المقروءة على وجود الله وصفاته، إنما جاءت هذه محركة ومقوية لدلالة الفطرة، وكأنه يقول: إن المخلوقات رُكِّبت بفطرتها على ضرورة الإيمان بالله عز وجل وبربوبيته وإلهيته، وأن هذه الأدلة ما هي إلا مقوية لهذا الإيمان الفطري، ولذلك قال: إن هذه الطرق العقلية الفطرية هي التي جاء بها القرآن، يعني: تستحث الفطرة، لا بطريق القياس فقط، وإنما بطريق الدلالة المباشرة، مثل قوله عز وجل: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10]، فهذا دليل فطري، وليس للفت النظر إلى الآيات الكونية بالتفصيل، وإنما لإثارة عوامل الفطرة، وإن كان للفت النظر إلى الآيات الكونية، لكنه لفت إلى الكون كله وليس إلى جزئيات الآيات، ومع ذلك أحياناً تستعمل الدلالة على وجود الله بجزئيات الآيات من باب تقوية اليقين، وإقامة الحجة على المعاندين، وإلا فهذا أمر فطري تقتضيه الفطرة، سواء وجدت الآيات أم لم توجد، ولذلك فإن المؤمنين الخُلّص، أو الذين سلمت فطرتهم قد لا يتمعنون في الدلالات الكونية إلا إذا جاء للتمعن مناسبة أو سبب، وإلا فقلوبهم قبل ذلك ممتلئة باليقين بالله عز وجل، كما قال إبراهيم عليه السلام: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، أي: أنه لم يكن عنده شك في قدرة الله على الخلق، ولا في عظيم آيات الله، لكنه أراد أن يرى أمراً حسياً يستدل به على ما في قلبه من يقين، أو يقوى به ما في قلبه، وإلا فدلالة الفطرة موجودة في نفسه، ولذلك استخدمها لما رأى الشمس ورأى القمر ورأى النجوم، ونفى أن تكون هذه المخلوقات هي ما يقصده ويعبده، وكل ذلك بالفطرة الكاملة التي فطره الله عليها، لا بأدلة أخرى أو بمقاييس الفلاسفة وغيرهم.
وأما قوله رحمه الله: [والناس يعلمون أن هذه المخلوقات آيات ودلائل للخالق، فلا بد أن يكونوا يعرفونه، حتى يعلموا أن هذه دلائل مستلزمة له].
في الحقيقة هذه لفتة جميلة جداً؛ لأنهم ما استدلوا إلا على شيء في نفوسهم، يعني: لماذا الناس احتاجوا أو استعملوا الدلالات على وجود الله، سواء من استعملها حجة على غيره، أو استعملها ليقوى إيمانه؟ إنما استعملها ليقينه بوجود الله عز وجل، وإلا لاحتاج الناس إلى أن يؤمنوا بالله أن يروا الآيات، بينما العكس هو الصحيح، فالناس آمنوا بالله ثم إن الآيات زادتهم إيماناً وأقامت الحجة على من عاند، سواء من المشركين أو من الملاحدة الذين يزعمون أنهم ينكرون وجود الله، وفي الحقيقة هم لا ينكرون وجود الله، بل يعبّرون عن وجود الله بتعبيرات أخرى؛ لأنهم لو اعترفوا فقالوا: الله، ففيه إلزامهم بالطاعة، لكن منهم من قال: الذي يدبر الكون هي الطبيعة، ومنهم من قال: القوة، ومنهم من قال: الذي يدبر الكون عقل كبير أو العقل الأول، ومنهم من قال: الذي يدبّر الكون هو الروح، ومعنى هذا أنهم كلهم لا بد أن يؤمنوا بمدبّر للكون، ومن ينكر وجود الله تعالى فهو مستكبر عن وصف الله باسمه أو بما يليق به، وإلا فهو يقول: للكون مدبر.
ومن هنا فكلام الشيخ جيد، ويدل على قوة دلالة الفطرة، وأن الناس يعلمون أن الله عز وجل قد فطرهم على العلم بأن هذه المخلوقات آيات ودلائل على الخالق، فلا بد أن يكونوا يعرفونه؛ لأنهم ما بحثوا عن الدلائل، سواء المنكر الذي يريد الدليل أو المؤمن الذي يستدل على غيره أو ليستدل لغيره، فما استدلوا إلا لأمر كانوا يوقنون به فطرة وغريزة، وهو وجود الله عز وجل وعظمته وكماله.