قال رحمه الله تعالى: [فإن الكليات إنما تصير كليات في العقل بعد استقرار جزئياتها في الوجود، وكذلك عامة القضايا الكلية التي يجعلها كثير من النُظّار المتكلمة والمتفلسفة أصول علمهم، كقولهم: الكل أعظم من الجزء، أو النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك فإنه أي كلي تصوره الإنسان علم أنه أعظم من جزئيه، وإن لم تخطر له القضية الكلية، كما يعلم أن بدن الإنسان بعضه أكثر من بعض، وأن الدرهم أكبر من بعضه، وأن المدينة أكثر من بعضها، وأن الجبل أكبر من بعضه، وكذلك النقيضان وهما: الوجود والعدم، فإن العبد إذا تصور وجود أي شيء كان وعدمه، علم أن ذلك الشيء لا يكون موجوداً معدوماً في حالة واحدة، وأنه لا يخلو من الوجود والعدم، وهو يقضي بالجزئيات المعينة، وإن لم يستحضر القضية الكلية، وهكذا أمثال ذلك].
يعتبر هذا من تكلفات الفلاسفة والنظّار والمتكلمين في تقرير البدهيات؛ لأن هذه الأمور لا تحتاج إلى كبير جهد ووقت، بل حتى عند أبسط الناس، ككون الجبل أكبر من بعضه، أو النقيضان هما: الوجود والعدم، أو الحياة والموت، أو السواد والبياض إلى آخره، سواء كانا نقيضين أو متضادين أو متقابلين، فهذه الأمور بدهية والتكلف في تقريرها هو نوع من عبث الصبيان، وإضاعة الوقت والجهد، وكد الذهن فيما لا طائل تحته، والتفريع عليها في الأمور الوهمية في الغالب يجعل البدهيات معضلات، وعليه فالتكلّف في تقرير هذه الأمور البدهية هو منهج الفلاسفة؛ لأنهم فارغون ومثاليون وليس لهم في الواقع وجود، وأغلب كلامهم هو من باب إضاعة الوقت وكد الذهن فيما لا طائل تحته، أو فيما هو معلوم بالضرورة، ولذلك حينما تكلّفوا في هذه الأمور وجد منهم من يعارض البدهيات، فأحياناً تجد عند بعض الجهمية والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم أشياء هي شك في البدهيات، حتى قالوا: وجود الكون وجود مجازي، يعني: أنه ليس حقيقة، وحتى إن بعضهم افترض أن الإنسان يمكن أن يشك في وجوده، ويقول: إن وجودي مجرد وهم، فهذه الترّهات سببها التكلّف في تقرير البدهيات.
ويقصد بالآيات الآيات الكونية الدالة على وجود الله عز وجل، يقال: إن الإنسان وإن لم يفكّر بعقله فقد رُكّب بفطرته على أنه لا بد أن يوقن بوجود الله عز وجل والإقرار بربوبيته، لكن الآيات تلزم وتزيد اليقين في الإنسان.
وهو في الحقيقة قد بدأ في موضوع آخر، ولم يتكلم عن الآيات، وكأنه يريد أن يقرر أن ما قاله المتكلمون والفلاسفة في مسألة تفسير كثير من الأمور الشرعية -ومن ضمنها تفسير التسبيح- مبني على أنهم أخذوا الأمور بالقواعد العقلية فيما يتعلق باستقراء الأمور، ومن ضمنها القياس.
فإذاً: سيصل إلى النتيجة في آخر المقالة، ونحن على وشك انتهاء الموضوع فلا نستعجل النتيجة، لذلك سيخرج بنتيجة بيّنة فيما بعد إن شاء الله.
قال رحمه الله: [ولما كان القياس الكلي فائدته أمر مطلق لا معين، كان إثبات الصانع بطريق الآيات هو الواجب، كما نزل به القرآن، وفطر الله عليه عباده، وإن كانت الطريقة القياسية صحيحة، لكن فائدتها ناقصة، والقرآن إذا استعمل في الآيات الإلهيات استعمل قياس الأولى لا القياس الذي يدل على المشترك، فإنه ما وجب تنزيه مخلوق عنه من النقائص والعيوب التي لا كمال فيها، فالباري تعالى أولى بتنزيهه عن ذلك، وما ثبت للمخلوق من الكمال الذي لا نقص فيه كالحياة والعلم والقدرة، فالخالق أولى بذلك منه، فالمخلوقات كلها آيات للخالق، والفرق بين الآية وبين القياس أن الآية تدل على عين المطلوب الذي هي آية وعلامة عليه، فكل مخلوق فهو دليل وآية على الخالق نفسه، كما قد بسطناه في مواضع].