قال رحمه الله تعالى: [وأما الشرك الخفي: فهو الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه، مثل: أن يحب مع الله غيره فإن كانت محبته لله مثل حب النبيين والصالحين، والأعمال الصالحة فليست من هذا الباب؛ لأن هذه تدل على حقيقة المحبة؛ لأن حقيقة المحبة أن يحب المحبوب وما أحبه، ويكره ما يكرهه، ومن صحت محبته امتنعت مخالفته؛ لأن المخالفة إنما تقع لنقص المتابعة، ويدل على نقص المحبة قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] الآية، فليس الكلام في هذا، إنما الكلام في محبة تتعلق بالنفوس لغير الله تعالى، فهذا لا شك أنه نقص في توحيد المحبة لله، وهو دليل على نقص محبة الله تعالى، إذ لو كملت محبته لم يحب سواه.
ولا يرد علينا الباب الأول؛ لأن ذلك داخل في محبته، وهذا ميزان لم يجر عليك، كلما قويت محبة العبد لمولاه، صغرت عنده المحبوبات وقلّت، وكلما ضعفت كثرت محبوباته وانتشرت.
وكذا الخوف والرجاء وما أشبه ذلك، فإن كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئاً سواه، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39]، وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق، وعلى قدر نقص الخوف وزيادته يكون الخوف كما ذكرنا في المحبة، وكذا الرجاء وغيره، فهذا هو الشرك الخفي الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه إلا من عصمه الله تعالى، وقد روي: (أن الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل).
وطريق التخلص من هذه الآفات كلها: الإخلاص لله عز وجل، قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، ولا يحصل الإخلاص إلا بعد الزهد، ولا زهد إلا بالتقوى، والتقوى متابعة الأمر والنهى].
هذه في الحقيقة نصيحة ذهبية جليلة وعظيمة، وقد أوجزها الشيخ في أربع كلمات، وحبذا لو تأملناها وتأملنا أيضاً لوازمها، قال رحمه الله: (ولا يحصل الإخلاص إلا بالزهد) هذه حقيقة نسيها كثير من الناس خاصة في عصرنا الذي تكاثرت فيه على الناس أسباب الدنيا وبهرجها، حتى أعمت أبصارهم وبصائرهم عن الزهد، وإن المتأمل يجد أن حقيقة الزهد في العباد نادر وعزيز جداً، ومن هنا نفسر أسباب وكثرة شكاوى الناس من قسوة القلوب، وعدم التأثر بآيات الله عز وجل المقروءة والمنظورة والمسموعة، كما نفسر ما يحدث لكثير من الناس من سرعة التفلت، وسرعة التغير في أحوال الناس فيما بينهم، وقبل ذلك مع ربهم عز وجل.
والذي نخصه هو ما يحدث كثيراً بين الناس من الشحناء، وسرعة المنازعة بين أهل الخير، وسرعة الخلاف والفرقة، وما يحدث من تباعد بين الناس في مذاهبهم وفي مقاصدهم وفي غاياتهم وفي اتجاهاتهم؛ لأن الناس كثير منهم يتوخى الإخلاص، لكن ما فعل السبب وهو الزهد، والزهد الذي يعين على الورع يحتاج إلى مجاهدة عظيمة في هذه الدنيا، يعني: كثير من الناس قد يتحرى الزهد، ويجاهد للحصول عليه، لكن عندما يأتي الدنيا وبهرجها، وضغوط المجتمع على الإنسان -أعني: على سمعه وبصره- يشده ذلك إلى عدم الزهد وعدم الورع، ثم إن الزهد يوجب على كل واحد منا أن يفتش عن نفسه إذا كان فعلاً ينشد الزهد والورع، وليعرف أنه لا يحصل على الزهد والورع إلا بالتقوى والمراقبة لله عز وجل، وألا يعمل شيئاً حتى يعلم أنه مما يرضي الله عز وجل، وليتحرى كل التحري من كل ما يغضب الله عز وجل، وليتحرى من المشتبهات التي كثرت على الناس، ويظهر لي أن المشتبهات الآن على المسلمين أكثر من أي زمن مضى في كل الأمور، وليس فقط في الأكل والشرب، بل حتى في الأفكار والمفاهيم والمعاملات، حتى فيما يتعلق بتعامل المسلمين مع غيرهم، وكتعاملهم مع الأشياء والمناهج والأصول والأفكار والأكل والشرب ووسائل الدنيا ووسائل الحياة وغيرها، هذا وقد أصبحت المشتبهات أكثر بكثير من الأمور المحررة بالبينة، وهذه بحد ذاتها فتنة عظيمة، ولأن أعظم أسبابها: انفتاح المسلمين على غيرهم، واختلاط الدنيا بعضها ببعض فهيمنت مناهج ووسائل الكفار على وسائل المسلمين، وجعلت المشتبه هو الأكثر، فلذلك الزهد عزيز، والزهد صعب، لكن من يتق الله يجعل له مخرجاً.
ثم قال: (والتقوى متابعة الأمر النهي)، أي: أن التقوى لابد أن تكون تابعة للأمر والنهي.
إذاً: فهذه في الحقيقة وصايا وقواعد تهدف من توخاها وفهمها بأصولها الشرعية وبأدلتها، وعمل مخلصاً جاهداً إلى أن يتوصل إلى الإخلاص لله عز وجل.