قال رحمه الله تعالى: [فصل جامع: قد كتبت فيما تقدم في مواضع قبل بعض القواعد، وآخر مسودة الفقه: أن جماع الحسنات العدل، وجماع السيئات الظلم، وهذا أصل جامع عظيم].
يقصد الشيخ هنا العدل بمعناه العام، والظلم بمعناه العام؛ لأن العدل معناه واسع، وهو ضد الجور وضد الميل، والجهل كذلك ضد الاعتدال وضد الاستقامة، وأغلب ما يستعمل الناس العدل فيما هو ضد الجور وضد الميل، لكن معناه الواسع قد يغفل عنه كثير من الناس، والشيخ هنا قصد المعنى الواسع، فالعدل هو الاعتدال، وهو صراط الله المستقيم الذي فيه جميع الشرع، العقيدة والشريعة، وكل ذلك هو العدل وهو مقتضى العدل، وليس فقط العدل مع الناس أو العدل في الحكم أو العدل ضد الجور أو ضد الميل، وإنما العدل الاستقامة على دين الله عز وجل.
ولذلك نجد هذا المعنى العام موجود حتى عند العوام، فيقولون: هذا الطريق عدال، أي: مستقيم، وهو معنى جيد لمفهوم العدل، وكذلك الظلم ليس فقط معناه هنا مجرد ظلم الآخرين، بل ظلم النفس وظلم الآخرين، وكذلك من الظلم الجور عن الحق، والميل عنه.
قال رحمه الله تعالى: [وتفصيل ذلك: أن الله خلق الخلق لعبادته، فهذا هو المقصود المطلوب لجميع الحسنات، وهو إخلاص الدين كله لله، وما لم يحصل فيه هذا المقصود فليس حسنة مطلقة مستوجبة لثواب الله في الآخرة، وإن كان حسنة من بعض الوجوه له ثواب في الدنيا، وكلما نهى عنه فهو زيغ وانحراف عن الاستقامة، ووضع للشيء في غير موضعه فهو ظلم].
الشيخ هنا فسر الظلم بمعناه العام فقال: (وكل ما نهى عنه -الشرع- فهو زيغ وانحراف عن الاستقامة، ووضع للشيء في غير موضعه فهو ظلم).
قال رحمه الله تعالى: [ولهذا جمع بينهما سبحانه في قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف:29]، فهذه الآية في سورة الأعراف المشتملة على أصول الدين، والاعتصام بالكتاب، وذم الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، كالشرك وتحريم الطيبات، أو خالفوا ما شرعه الله من أمور دينهم، كإبليس ومخالفي الرسل من قوم نوح إلى قوم فرعون، والذين بدلوا الكتاب من أهل الكتاب، فاشتملت السورة على ذم من أتى بدين باطل ككفار العرب، ومن خالف الدين الحق كله كالكفار بالأنبياء، أو بعضه ككفار أهل الكتاب.
وقد جمع سبحانه في هذه السورة وفي الأنعام وفي غيرهما ذنوب المشركين في نوعين: أحدهما: أمر بما لم يأمر الله به كالشرك، ونهي عما لم ينه الله عنه كتحريم الطيبات، فالأول شرع من الدين ما لم يأذن به الله.
والثاني: تحريم لما لم يحرمه الله.
وكذلك في الحديث الصحيح حديث عياض بن حمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن الله تعالى: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً).
ولهذا كان ابتداع العبادات الباطلة من الشرك ونحوه هو الغالب على النصارى ومن ضاهاهم من منحرفة المتعبدة والمتصوفة، وابتداع التحريمات الباطلة هو الغالب على اليهود ومن ضاهاهم من منحرفة المتفقهة، بل أصل دين اليهود فيه آصار وأغلال من التحريمات، ولهذا قال لهم المسيح عليه السلام: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، وأصل دين النصارى فيه تأله بألفاظ متشابهة، وأفعال مجملة، فالذين في قلوبهم زيغ اتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما قررته في غير هذا الموضع: بأن توحيد الله الذي هو إخلاص الدين له، والعدل الذي نفعله نحن هو جماع الدين يرجع إلى ذلك، فإن إخلاص الدين لله أصل العدل، كما أن الشرك بالله ظلم عظيم].
والنتيجة أو الخلاصة لهذا الحديث كله: هي أنه قصد في هذا الفصل الجامع أن العدل هو إخلاص الدين لله جملة وتفصيلاً، ويدخل في ذلك إخلاص الدين لله في العبادة والأحكام، وفي المستحبات والواجبات والفرائض.
كما قصد رحمه الله أن الظلم هو الشرك بالله جملة وتفصيلاً، ويدخل في ذلك الشرك الأكبر والشرك الأصغر وظلم النفس وظلم الغير، وهذه من الأمور والقواعد الجيدة التي ينبغي لطلاب العلم دائماً أن يعوها ويستفيدوا منها؛ لأن مثل هذه القواعد في الغالب أنها تصبح بمثابة الموازين، حيث إنه إذا استوعبها طالب العلم ففي الغالب بإذن الله أنه يوفق ويسدد إذا التزم قواعد الاستدلال ونهج السلف في ذلك، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.