قال المصنف رحمه الله: [وإذا كان الإسلام الذي هو دين الله لا يقبل من أحد سواه، قد اعترض الشيطان كثيرًا ممن ينتسب إليه، حتى أخرجه عن كثير من شرائعه، بل أخرج طوائف من أعبد هذه الأمة وأورعها عنه حتى مرقوا منه كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة].
قوله: (من أعبد) أي: من أكثر هذه الأمة عبادةً وورعاً، حتى مرقوا منه كما يمرق السهم من الرمية.
قال المصنف رحمه الله: [وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المارقين منه، فثبت عنه في الصحاح وغيرها من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري، وسهل بن حنيف].
هذه النصوص متواترة، قال الإمام أحمد رحمه الله: "صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه"، وقد روى الإمام مسلم في صحيحه حديث الخوارج من هذه الأوجه، وأخرج البخاري طرفاً منه، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليه علي رضي الله عنه بذهب من اليمن في أديم مقروض ..
فقسمة النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر، فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: (اعدل يا محمد!)، فلم يقل: حقي يا محمد، إنما قال: اعدل يا محمد! وهذه هي الإشكالية، فإن هذا الرجل قل أدبه أكثر من اللازم لما قام أمام النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه هو الإمام العدل.
فأحياناً بعض هذه الصور النفسية توجد لدى البعض من الناس حينما يرى أن نفسه -إن صح التعبير كما في بعض الكتابات- نفس ملائكية، أي: يرى نفسه نفساً فاضلة؛ فتجده ينظر إلى الآخرين على أنهم ليسوا جادين في التمسك بالسنة، وفي الغيرة على دين الله، وحدود الله، والغيرة على المسلمين، والاهتمام بقضايا المسلمين.
فمسألة الانطلاق من المبدأ السامي الصحيح لا يلزم بالضرورة أن الإنسان يأمن على نفسه أن يكون الشيطان قد وظف هذا المبدأ في نفسه بمعنى يخالف الشريعة، فهذا الرجل قال: (اعدل يا محمد! فإنك لم تعدل، فقام خالد بن الوليد -وفي رواية: عمر بن الخطاب والروايتان في الصحيح- فقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعله أن يكون يصلي)، وهذا من فقه الشرع، أن مسائل القرائن لا تعتبر في مسائل الظاهر كثيراً، فإن هناك مسائل من الظاهر مثل مسألة الدماء فلا يستبيح الإنسان دم المسلم بقرائن، ومثال ذلك: قصة أسامة بن زيد -كما في الصحيحين من أوجه- أنه لما قاتل أسامة رجلاً من المشركين، فلما أدركه بالسيف بعد أن لاذ منه في شجرة ورأى أن أسامة رضي الله عنه قاتله، قال الرجل: لا إله إلا الله، فواضح من جملة القرائن المحتفة أن الرجل إنما قالها تعوذاً؛ لأنه خرج يقاتل المسلمين، فهو لم يفكر بالإسلام، فلماذا لم يأته الإسلام إلا لما رأى السيف؟! فلما قتله أسامة وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، قال له: (يا أسامة! أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! إنما قالها خوفاً من السيف -وفي رواية: إنما قالها تعوذاً- قال: أفلا شققت عن قلبه؟)، ومعنى كلمة: (أفلا شققت عن قلبه؟) أن القرائن لا تحكم هذا التصرف.
ففي هذه النصوص من الفقه ما ينبغي لطالب العلم أن يعتبره، وهذا من أجل الفقه، فهو أهم من أن تعرف فرعاً في مسألة في تفاصيل معاملة من المعاملات أو شيء من هذا، فإن هذا هو الفقه الأكبر، وهو فقه العقائد، وفقه مقاصد الشريعة الكلية.
وكما قال أبو حنيفة عن باب العقائد والتوحيد أنه الفقه الأكبر، حتى ذكر له كتاب في هذا، وإن كان الغالب أنه ليس له.
والمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعله أن يكون يصلي.
قال خالد: يا رسول الله! وكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس بقلبه، فقال عليه الصلاة والسلام: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم)، هكذا في رواية الصحيح، فكيف لم يؤمر أن ينقب عن قلوب الناس مع أن الرجل قد تلفظ وقال: اعدل يا محمد! ومع ذلك لم ير رسول الله عليه الصلاة والسلام قتله، حفظاً لمقاصد الإسلام العامة، وكما قال في عبد الله بن أبي: (حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).