أما أهل السنة والجماعة فذكروا أصلين شريفين في دفع قول الخوارج وفي دفع قول المرجئة، وهو أن الإيمان قول وعمل، وذكروا تحت هذه الجملة أصلين:
الأصل الأول: أن أصل الإيمان في القلب.
الأصل الثاني: أن العمل أصل في الإيمان.
وهذا السياق عند أهل السنة والجماعة قد حكى الإجماع عليه جماعة، وهو من الظهور بمكان، وممن حكى الإجماع في هذين الأصلين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
فقول السلف في هذه المسألة آحاد الطلبة والمبتدئين يعرفون أنه قول وعمل، لكن القصور عند بعضهم يكون في فقه هذين الأصلين، وهما: أن أصل الإيمان في القلب، وهو أصل متفق عليه كما ذكر ذلك الإمام ابن تيمية وغيره،
والأصل الثاني: أن العمل أصل في الإيمان.
ولذلك نجد أن بعض أهل السنة المتأخرين من الفقهاء ونحوهم إما أنهم زادوا في درجة الأصل الأول حتى قصروا عن إثبات الأصل الثاني، وإما أنهم زادوا في إثبات الأصل الثاني حتى قصروا عن تحقيق الأصل الأول.
وهذا لا يختص وقوعه من حيث الخطأ فيه بمنشق أو بمعارض بيّنٍ للسنة والجماعة، بل قد يدخل مثل هذا الوهم والغلط في فقه الأصول على بعض أصحاب السنة والجماعة المتأخرين أو المنتسبين إليها، وهذا معنى لطيف نبه إليه الإمام ابن تيمية رحمه الله، فقال رحمه الله: "الأصول الجامعة في عقيدة أهل السنة الجماعة -ويقول: في مذهب أهل السنة والجماعة- لا تخفى على آحاد الفقهاء، وإنما الذي يقع فيه كثير من الوهم والغلط عند بعض الفقهاء من أصحاب السنة والجماعة من المتأخرين هو فقه هذه الأصول".
إن الأصل الأول هو أن أصل الإيمان في القلب، ولكن بعده أصل آخر وهو واسطة وليس معارضاً له أو مخالفاً له، وهو أن العمل الظاهر أصل في الإيمان، ولا بد أن يقال بهذا وأن يقال بهذا، وهذا ما مضى به الإجماع -كما أسلفت- وما مضت به النصوص المتواترة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس)، وذكر في هذه الخمس أصول العمل، فلا بد أن يقال: إن العمل أصل في الإسلام والإيمان.
قد يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا في الإسلام في حديث ابن عمر رضي الله عنهما؟
فيقال: إنه فسر به الإيمان في حديث وفد عبد القيس الثابت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن وفد عبد القيس لما جاءوا قالوا: (يا رسول الله! إنا حي من ربيعة، وبيننا وبينك كفار مضر، ولا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، قالوا: فمرنا بأمرٍ فصل نأمر به من وراءنا وندخل به الجنة، فقال: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان ...) إلى آخر الرواية في قصة وفد عبد القيس.
فهذان الأصلان ضبط بهما السلف حقيقة الإيمان في الشريعة، فهذه هي الدرجة الأولى من الاختلاف في مقام العمل، وهي درجة تتعلق برتبة العمل، وحكمه، وليس بتفسيره وتطبيقه.
ثم حدث في أثناء المائة الثانية من الهجرة النبوية العناية بمسألة تطبيق العمل، فظهرت بدايات المخالفة للسنة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أوائل هذه المخالفة هي من مقارب الاجتهاد، فلا يوصف أصحابها بأنهم خارجون عن السنة والجماعة أو أنهم من أهل البدع الذين لا يضافون إلى السنة والجماعة.