ظهور التعصب والتكلف بسبب الفصل بين أبواب الشريعة

فهذا الانفكاك أدى إلى نوع من الشعور الداخلي أحياناً لدى المشتغل بالفقه أن الذي يشتغل بمسألة الصحيح والضعيف والعلل ليس على شيء كبير، وأن مسألة دراسة الإسناد انتهت مع الزهري والإمام أحمد ويحيى بن سعيد وابن معين، ومن يشتغل بالحديث يرى أن الذي يشتغل بالفروع إنما يجهد ذهنه في تقليد وتحصيل مذهب، وأن اشتغال الفقهاء المتأخرين كان فيه قدر من التكلف، وكذلك المنقطعون للسلوك.

وفعلاً ربما وجدت أوجه من التكلف في هذا الانفصال، وأنا أقول هذا الكلام لأصل إلى هذه النتيجة.

ولذلك لما تكلم ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم عن مسائل التشبه بغير المسلمين من أهل الكتاب أو غيرهم قال: "إن التشبه قد يدركه كثير من العامة، ومع الأسف يدركه كثير من الخاصة على أنه في اللباس"، ولذلك تجد بعض الإخوة الآن ينكرون على عوام الناس وربما على الأطفال أحياناً بعض مظاهر اللباس الذي فيه تشبه بغير المسلمين، وهذا فقه جيد، لكن بعض طلبة العلم أحياناً قد يبتلون بأوجه من التشبه بأهل الكتاب، ربما هي أشكل شرعاً -أي أشد شرعاً- من تشبه صبي في لباس معين.

يقول ابن تيمية رحمه الله: ومن أخلاق الأمم الكتابية المنحرفة عن كتابها ما ذكره الله في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:113]، يقول ابن تيمية: وهذا الخلق عند منحرفة أهل الكتاب قد دخل كثير منه على أهل الإسلام، فترى صاحب العلم والشريعة -أي: المشتغل بالعلوم- لا يرى صاحب الزهد والعبادة على شيء، وترى صاحب العبادة والأحوال والمقامات لا يرى صاحب العلم على شيء، وترى صاحب الجهاد ما يرى أصحاب العلم على شيء ..

ولربما بعض أصحاب العلم لا يرون أصحاب العبادات على شيء وهكذا.

وهذا ليس مختصاً بأهل الكتاب، بل هذا خلق مباين للإسلام الذي بعث به الأنبياء عليهم السلام؛ فإن الله لما ذكر أجناس الكفار ذكر المفترقين على كتب الأنبياء ووصفهم بقوله سبحانه: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]، وهذا كثير منه اليوم سببه نقص العقل، وقد يكون عنده شيء من العلم لكن ما عنده هذا العلم مع الفقه فيه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015