تقدم أن أول مسألة من مسائل أصول الدين ظهر فيها الخلاف هي: مسألة العمل، وقد طرأ الخلاف في مسألة العمل في ابتدائه من جهة رتبة العمل وحكمه، وقلنا: إن المخالفين في رتبة العمل وحكمه ابتدأ الأمر بالخوارج، ثم قاربتهم المعتزلة، ثم قابلتهم على جهة المقابلة المضادة طرق المرجئة، هذا من حيث الرتبة والحكم للعمل.
أما من حيث الجهة الثانية وهي مفهوم العمل وتطبيقه، فهذه كانت بداية الغلط فيها في أثناء المائة الثانية من الهجرة ببعض الأغلاط التي سبقت الإشارة إليها، أي: لم تكن على عصر النبوة وإن كان الجمهور من الفقهاء قد يعذرون في كثير منها أو أكثرها.
ثم تميز هذا المنهج في مفهوم العمل وتطبيقه بظهور اسم الصوفية بطرقها الخاصة، وظهرت أوجه التصوف على ثلاث درجات: الاختصاص بالاسم والشيء من العمل الذي لا أصل له، ثم الدرجة التي بعدها التصوف المنظم بمصطلحاته المعروفة التي يغلب عليها أنها مصطلحات مولدة في الإسلام، ومصطلحات رمزية، هذا نسميه: التصوف المنظم بمصطلحات رمزية مولدة، كمصطلح الكشف، والوجد والسكر والصحو والفناء، وأمثال ذلك.
ثم تغلظ التصوف بأثر الفلسفة وظهور التصوف الفلسفي المباعد للحقائق الشرعية التي كان عليها أئمة السلوك والعبادة في أول الأمر.
وقد تكلمنا عن هذا الأمر كمقدمة، ثم بعد ذلك تحدث شيخ الإسلام عن الوسطية الشرعية، والوسطية الشرعية هي المنهج الحق الذي بعث الله به الأنبياء، وجعل هذه الأمة هي أخص الأمم في تحقيق هذه الوسطية، وقول الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] ليس معناه أن الأنبياء الآخرين لم يبعثوا بالوسطية، وإنما معناه: أن أتباع هذا النبي هم أخص الأمم لتحقيقها، ولذلك قال: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143].
ومن جهة الآية يعلم أنه لا يجوز أن يقوم بالشهادة على الناس إلا من حقق منهج الوسطية الشرعية، أما من لم يكن وسطاً بل كان إما صاحب خفض وإنقاص للحقائق الشرعية، وإما صاحب رفع وغلو، فإن هذا لا يجوز أن يكون شاهداً على أحد من المسلمين، لا من أهل الصواب ولا من أهل الخطأ؛ لأن الله سبحانه وتعالى حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً، وكان أئمة السنة المحققون أنصف لمخالفيهم من المخالفين أنفسهم بعضهم مع بعض.
وقد ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله أن بعض طوائف الشيعة نصوا -في بعض كلامهم- على إنصاف أهل السنة لهم أكثر من إنصاف بعضهم لبعض.
ومن أمثلة ذلك: مسألة التكفير في كلام أئمة السنة المحققين، فإنهم أعدل بل لا يوجد من الطوائف من اعتدل في هذه المسألة كاعتدال الأئمة.