ومقصوده بصوفية الحقائق: من قصدوا إلى تحقيق معاني التصوف بطرقهم أو بالطرق التي يعتبرونها، فإن قيل: فما هي الطرق التي قصدوا إلى تحقيق معاني التصوف والسلوك والتعبد بها؟
قيل في جوابه: هذا مما يختلفون فيه كثيراً، فإن منهم من هو في تصوفه على طريقة المتفلسفة، ومنهم من هو في تصوفه على أصول كلامية، ومنهم من هو في تصوفه على أصول مجملة من الكتاب والسنة وهدي السلف الأول، لكنه أخطأ في ذلك.
فصوفية الحقائق درجات، ولكن مقصوده بذكرهم أنهم المشتغلون بنظم التصوف وتطبيقه وتفسيره، ويغلب على صوفية الحقائق أنهم يستعملون لتفسير هذا أسماء كثيرة، كالفناء والبقاء، والجمع والتفرقة، والكشف والوجد، والسكر والصحو، وما إلى ذلك.
فإن قيل: فما تفسير هذه؟
فأقول: لا ينبغي لمن أراد أن يكتب جواباً أو تعريفاً أو ما إلى ذلك أن يبني على مثل تعريفات الجرجاني لمثل هذه الأسماء؛ فإن هذه الأسماء أو هذه المراميز -كما يسميها الصوفية كـ ابن سينا من المتفلسفة أو كـ أبي حامد الغزالي - هذه المراميز كل طبقة أو كل مدرسة من الصوفية تفسرها بدرجة تختلف عن غيرها.
فمثلاً: إذا استعمل أبو إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي كلمة (الجمع) فإنه لا يصلح أن تفسر بالتفسير الذي يفسره التلمساني؛ فإنه لما صنف منازل السائرين -وهي رسالة له في التصوف- وذكر فيها الأحوال وما إلى ذلك، شرح هذه الرسالة العفيف التلمساني، والعفيف التلمساني هو من متفلسفة الصوفية، بل يقول ابن تيمية: "ليس فيهم من هو أجلد منه في هذا الباب"، بل يجعل تمسكه بفلسفة الصوفية أكثر من تمسك ابن عربي بها، لكن ابن عربي كان أشهر عند العامة.
فالمقصود: أن التلمساني لما فسر كلام أبي إسماعيل الأنصاري الهروي، فسره تفسيراً غالياً مقارباً لطريقة متفلسفة الصوفية، لكن لما جاء من ليس صوفياً في المفهوم بالكلمة وهو ابن القيم رحمه الله، فشرح رسالة الهروي في كتابه مدارج السالكين، تباعد عن كثير من مقاصد الصوفية، ليس المتفلسفة بل حتى من دون المتفلسفة، بل حاول أن يقرب مقاصد الهروي بمراميزه وجمله وحروفه إلى المعنى المعروف عند أئمة السنة والجماعة المتقدمين.
وهذا يدلك على أن تفسير كلام الصوفية ينبغي أن يكون بعلم وعدل، فلا ينقص عن قدره الذي كتبوا عليه حتى لا يخدع العامة بإنقاص، ولا يزاد في العدوان فيفسر الكلام تفسيراً غالياً من قائل لم يكن على هذه الدرجة.
إذاً: هذه صوفية الحقائق، وهم المشتغلون بنظم التصوف وتفسيره، ثم هم درجات شتى.