المقصود بذكر المحكم والمتشابه بأن العلم منه محكم ومتشابه، وأن العمل منه محكم ومتشابه، وإذا كان كذلك فينبغي لطالب العلم في دراسته لعلوم الشريعة أن يعنى بالمحكم من هذه العلوم، وكذلك في باب العمل.
كذلك على المسلمين اليوم خاصتهم وعامتهم -ومصطلح الخاصة والعامة مصطلح لا بأس بالتعبير به، وإن كان مصطلحاً تكلم به بعض الصوفية، لكن الإمام الشافعي استعمله كثيراً، والخاصة هم أصحاب الفقه والإمامة والعلم، أو القصد إلى ذلك، والعامة هم دون ذلك -أن يعتنوا بمحكمات العلم ومحكمات العمل.
وقد يقول قائل: هذا الكلام لا يطلع عليه إلا القليل، وأنت تقول: المسلمون، فهل نستطيع أن نصحح؟
فنقول: الإنسان أولاً مكلف أن يبدأ بنفسه ثم بمن يسمع صوته، ثم لماذا ظهرت الآن بعض المظاهر البدعية عند المسلمين وعليها ملايين من أهل الإسلام؟ لأن النفس البشرية -وننبه إلى أن فقه النفوس أمر مهم، فإن البعض -خاصة من السلفيين- يدرسون العلوم دراسة تجريبية، وهذا خطأ، فإن هناك مسائل لابد للإنسان أن يتعلم فقهها ليصل فيها إلى تصحيح نفسه وإلى طريقة مخاطبة الغير- فنقول: لأن النفس البشرية موصوفة بالظلم والجهل والضعف وما إلى ذلك، وهذا موجود في القرآن، وليس بالضرورة أن تذهب إلى كتب علم النفس، هذا في القرآن في صفات النفس البشرية، فإن الله لما ذكر النفس قال: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج:19]، فهذه الكلمات التي في توصيف النفس البشرية لا بد أن يكون طالب العلم فقيهاً فيها، ومع الأسف أنه أصبح العلم عن أحاديث الأحكام فقط، هذه هي أم العلم، وأما الباقي فإنها آداب، ولا تحتاج إلى عناية كبيرة!
مع أن هذا المنهج ظاهر في صنيع المحدثين الذي كتبوا في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنهم لم يصنفوا في الأحكام فقط، فقد صنف البخاري فاختار ما صح عنده لكن في سائر أبواب الدين، بل حتى إنه لم يبتدئ بكتاب العبادات، بل بدأ بما هو قبل ذلك: باب الوحي والعلم والإيمان، ولما صنف مسلم فعل كذلك، ولما صنف أصحاب السنن فعلوا كذلك، فكانوا يذكرون أحاديث أصول الدين أولاً، ثم يذكرون أبواب الفقه ومسائل الآداب والأخلاق في سائر مواردها التي نزلت بها.
بل إننا نجد ذلك في القرآن، فإن ذكر القصص وتفصيل القصص في القرآن هو لقصد العبرة، وليس كمعلومات مجردة، قال سبحانه وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3]، وهذه في أول السورة، وفي آخرها قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف:111]، ونجد أن قصة موسى عليه السلام ذكرت في أكثر من موضع في القرآن، مع أنها في كثير من هذه المواضع فيها تقارب؛ لأن هذه تعطي العابد والسالك وطالب العلم والمسلم والمؤمن منهجاً، والله سبحانه وتعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بإخوانه الأنبياء، فما بالك بمن هو من أتباع الأنبياء واتباع هذا النبي، فهو أولى بهذا الاقتداء وهذا الفقه والتدبر لقصص الأنبياء، وأحوال النفس والإنسان وما إلى ذلك.
أحياناً بعض الشعراء يصل إلى معنى يعبر به عن مقصود، فالمتنبي يقول في شعر له:
خلقت ألوفاً لو رحلت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب
وهذه حقيقة كثير من عامة المسلمين اليوم، فهو يقول: (خلقت ألوفاً لو رحلت من الصبا) أي: أنا في سن الشيب الآن، وكل إنسان في الشيب يقول: مات الشباب، لكن لو جاء قرار واضح أنه ستنقل الآن من عتبة الشيب إلى مرحلة الشباب وستصبح شاباً لانتقلت وما ترددت، لكن سألتفت إلى الشيب باكياً، فلماذا يبكي على الشيب؟ يقول: لأني ألفته، والإنسان من طبيعته أنه يألف.
فالناس هكذا العوائب النفسية هي التي تتسلط على كثير من عقول المسلمين اليوم، وهذا إن شاء الله سنخصص له درساً في فقه مسألة التقليد، والتعصب في مسائل السلوك وما إلى ذلك وكيف يصحح ذلك، وكيف يتجه العوام من المسلمين، لا أقول إلى طريقة زيد أو عمرو أو مذهب أحد، وإنما إلى هدي الكتاب والسنة والحكمة والموعظة الحسنة.
فمسألة المحكم والمتشابه ينبغي لطالب العلم دائماً أن يضعها في ذهنه، وأن يصرف جمهور وقته في محكم العلم والعمل، وأن لا يعطي المتشابه إلا قدراً يسيراً، أم أن يمضي طالب العلم كثيراً من وقته، ومن عمره أمام المجتمع وأمام الناس، وفي متشابه العلم، أو متشابه العمل، فهذه الحال نحن نحاول أن نصححها للعامة، لكن كيف نصححها للعامة وطلبة العلم هم يعيشونها في أنفسهم، بل إننا نجد أحياناً أن بعض العوام عنده من المحافظة على محكمات العمل أكثر مما عند كثير من طلبة العلم، ونحن لو تأملنا هدي السلف الأول، وأجل السلف الأول هم الصحابة؛ لوجدنا أن هديهم عامته -إذا لم يكن جميعه- في محكم العلم ومحكم العمل.
بل حتى الأسئلة التي هي نوع من المتشابه ما كان الصحابة يسألونها؛ ومن ذلك: أنه لما حدث رسول الله عليه الصلاة والسلام في مسألة كتابة العمل فقال: (ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من الجنة أو من النار) لم يسأل كبار الصحابة: ففيم العمل؟ وإن كان قد سأل بعض من حضر من الصحابة، لكن هذا السائل لم يكن من أئمة وكبار الصحابة؛ بل لم يكن يمثل أيضاً أكثر الصحابة، ثم هذا السائل ليست هذه حاله على الدوام ولا على الغلبة، بل هي حال عرضت له، وكان سؤالاً يعرض لكثير من النفوس، لكن جمهور الصحابة ما سألوا، ولم يكونوا رضي الله عنهم تركوا السؤال لأنه لم يرد عندهم هذا السؤال؛ بل لأن من فقه حقائق الشريعة فقهاً مناسباً وتخلص من العوائد والتعصب والإلف والتقليد غير الشرعي؛ حصل له محكم العلم، ومحكم العمل، وصار يعيش فقهاً في نفسه، وطمأنينة وسكينة وما إلى ذلك.
فأنا أحببت أن أشير في هذه القواعد الثلاث إلى أن منهج الوسطية يقوم على ثلاثة أصول: العلم، والعمل، ثم النتيجة في الأصل الثالث.
وهي مسألة فقه الأصول والفروع والفرق بينهما، وفقه المحكم والمتشابه، وأن ما يجب على طالب العلم أن يمضي عمره فيه هو محكم العلم ومحكم العمل، وأن يدعو الناس من باب أولى إلى المحكم في هذا والمحكم في ذاك.
والمصنف من أول الكلام بدأ يتكلم عن الوسطية، وأن هذه الأمة وسط بين الأمم، ومعنى الوسط أي العدول الخيار، ثم إن أهل السنة والجماعة وسط في طوائف هذه الأمة.
أما مسألة عدد طوائف هذه الأمة فالله أعلم بها، فقد جاءت الأحاديث الصحاح أن هذه الأمة يقع فيها افتراق؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين) فدلت هذه النصوص، ودل الواقع التاريخي أيضاً أن هذه الأمة حصل فيها افتراق، وجاء في حديث مشهور في السنن والمسند: (وستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين) فإذا صح هذا الحديث -كما هو مذهب كثير من الحفاظ- قيل: إن فرق هذه الأمة ثلاث وسبعين، وإذا لم يصح قيل: العدد الله أعلم به، وحتى لو صح الحديث -كما هو مذهب كثير من الحفاظ، واختيار المؤلف- فإن طريقة السلف أنهم لا يرون الاشتغال بتعيين هذه الطوائف الثنتين والسبعين الخارجة عن السنة، وحينما لم يشتغل السلف بهذا فإن هذا هو مقتضى الشرع ومقتضى العقل؛ لأن الإنسان لا يعلم ماذا بقي من أيام الله في هذه الفترة، فلربما أن كثيراً من هذه الفرق لم تحدث، وأنت إذا رجعت إلى الأسماء التاريخية إن اعتبرت أصولها قلت: هي أقل من ثنتين وسبعين، وإذا اعتبرت فروعها الزائدة عن الثلاث والسبعين إلى المئات، جزمت بأنها أكثر من ذلك، ومن هنا كان الفقه أن لا يجزم في التعيين، وإنما يسلم بأن هذا على السنة وهذا ليس على السنة.
فالمقصود أن المصنف تكلم في أول هذه الرسالة عن وسطية أهل السنة والجماعة باعتبارها مسائل، وقال: إن المحافظين على أصول العبادات: الصلوات الخمس، والجمعة، ورمضان، والحج، والزكاة، ويحافظون على الإيمان بالله واليوم الآخر وملائكته ..
إلى آخر أركان الإيمان الستة، فلكونها مسائل بينة لم يسع الوقت للتعليق على كل واحدة منها بعينها إنما علق على المقصود بالوسطية، وأن الوسطية تنبني على هذه الأصول الثلاثة: أصل العلم، وأصل العمل، ثم الفقه في هذين الأصلين بالتفريق بين الأصول والفروع، والتفريق بين المحكم والمتشابه.