ِوإنما تذكر كلمة (عموم) في هذا الأصل؛ لأن الخلق من جهة أصله ليس فيه نزاع، فحتى الكفار يقرون بأن الله سبحانه هو الخالق، فلذلك يقال: الأصل الثالث عند أهل السنة: الإيمان بعموم خلقه سبحانه وتعالى.
وقد دخل في عموم خلقه سبحانه وتعالى لكل شيء: خلقه لأفعال العباد، فهو الخالق لها، وقد نازع في هذا الأصل القدرية بعامة، أي: جملة القدرية من الغلاة وغير الغلاة.
أما الغلاة فقد سبق أنهم قوم من الزنادقة، وأما غير الغلاة فهم أئمة المعتزلة، فإنهم هم الذين ابتدءوا القول في هذه المسألة على هذا الوجه، وتبعهم من تبعهم من الشيعة، فإنه غلب على الشيعة ولا سيما الرافضة منهم أنهم قدرية في باب القدر.
وكذلك فمن تأثر بهذا الأصل -أن الله لم يخلق أفعال العباد- بعض رجال الإسناد من أهل العلم، فإن هذا قد نقل عن بعض رجال الإسناد، وقد قال الإمام أحمد: (لو تركنا الرواية عن القدرية تركناها عن كثير من أهل البصرة)، فهذا النوع من رجال الإسناد تأثروا بهذه المقالة، ولكن في هذا النوع من أهل العلم ينبه إلى أن قولهم ليس هو قول المعتزلة، وإن كانوا قد يشاركونه في جملته الكلية، وجملته الكلية هي: أن أفعال العباد ليست من خلق الله سبحانه وتعالى، لكن دليل هذا القول عند المعتزلة ليس هو دليل هذا القول عند هؤلاء، فهم مخالفون لهم في أصل هذا القول، الذي هو مبناه ودليله، ومخالفون لهم في تفاصيل مسائله، فإن القدرية المعتزلة المتكلمة -أي: أصحاب علم الكلام- قد ضلوا في هذا القول من جهات: من جهة قدره الكلي الذي يشاركهم فيه بعض رجال الإسناد، وضلوا في هذا القول من جهة مبناه، فإنهم بنوه على الأصول الكلامية العقلية في زعمهم، وضلوا في هذا الأصل من جهة التفاصيل العلمية التي رأوها مستلزمة لهذا القول في مسائل التكليف، ومسائل التحسين والتقبيح، وما يتعلق بذلك.
إذاً: هذا القول وإن نقل عن بعض رجال الإسناد من البصريين إلا أن قول هؤلاء الذين لم ينتحلوا علم الكلام والأصول الكلامية ليس هو بتمامه قول المعتزلة وأمثالهم من المتكلمين، بل هناك اشتراك مجمل، وثمة فروق من أوجه متعددة.
وهذا الفرق الذي ذكر إنما يختص برجال الإسناد من البصريين وغيرهم.
وأما الشيعة الذين أخذوا هذا القول عن المعتزلة، فهؤلاء نقلة لهذا القول، فمادتهم فيه هي مادة المعتزلة، وأصولهم فيه هي أصول المعتزلة، والشيعة الرافضة في الأصل ليسوا من أهل العلم في علم الكلام، إنما تلقفوا علم الكلام والأدلة العقلية وما يتعلق بذلك عن المعتزلة، ولا سيما المعتزلة البغداديين؛ لأن معتزلة بغداد كانوا مائلين إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وكانوا يتشيعون له من جهة الانتصار له، ومن جهة التفضيل، أو الانتصار لحربه، أو ما إلى ذلك.
فلما كان عندهم هذا القدر من الميل إلى التشيع، وإن لم يكونوا شيعة محضة -أعني: معتزلة بغداد وبعض المعتزلة من غيرهم- صارت الشيعة تتلقف أقوالهم، فنقلوا عنهم بعض معتقداتهم، وأخص ما نقلوا عنهم في مسائل الأصول العلمية هو في أصلين: في الصفات، وفي القدر؛ فما يوجد في كتب الشيعة الإمامية عن هذين الأصلين إنما هو نقل عن المعتزلة، وإلا فالشيعة ليسوا من أهل العلم في هذا الباب، وليسوا من أهل العلم بالعقليات؛ لأن مبادئهم تقوم على مسائل العصمة والتسليم المطلق بأقوال الأئمة؛ فمبادئهم من جنس طرق الصوفية الغالية الذين لا يعتبرون مسائل النظر اعتباراً متيناً، ولهذا ليسوا من أهل الإسناد، ولا من أهل العقليات، وإنما أخذوا مادة العقليات من المعتزلة وتأثروا بهم، وما يوجد في بعض كتبهم من قوة الجدل العقلي فهو -في الغالب- محصل من كلام المعتزلة، فإنهم نقلوا عنهم في أصل الصفات وأصل القدر.
فهذا الأصل الثالث من أصول أهل السنة -وهو الإيمان بعموم خلقه سبحانه وتعالى- يخالف فيه القدرية من المعتزلة وغيرهم، فيقولون: إن الله لم يخلق أفعال العباد.