الأصل الثاني: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى كتب في الذكر كل شيء، وقد دخل في عموم كتابته سبحانه وتعالى كتابته لأفعال العباد، فما من شيء من أفعال العباد يكون منهم إلا وقد كتبه الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلقهم، وهذا الأصل مجمع عليه -في الجملة- بين المسلمين.
وإنما قُيد السياق بهذه الكلمة (في الجملة) من جهة أن الكتابة تختلف عن الأصل الأول من وجه، وهو: أن الأصل الأول -وهو عموم العلم- أصل فطري عقلي سمعي، بمعنى: أن الله تعالى فطر العباد على أنه بكل شيء عليم، وهذا من أول أصول الربوبية الفطرية.
وهو كذلك أصل سمعي من جهة أن النصوص نطقت بتفصيل علمه، كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:59] الآية، فعلمه عام بالكليات والجزئيات، لا كما يقول كفرة الفلاسفة: أنه لا يعلم الجزئيات.
وهو كذلك أصل عقلي، أي: ثابت بدليل العقل، بخلاف الكتابة: أنه سبحانه كتب في الذكر كل شيء، فهذا الأصل إنما هو أصل سمعي، أي: دل عليه الكتاب والسنة.
وإذا قيل: إنه سمعي، فلا يعني أن العقل والفطرة ينفيانه، وإنما المقصود أن العقل والفطرة لا يبتدئان في إثباته قبل ورود السمع، بخلاف الأصل الأول، فإن الفطرة والعقل يبتدئان إثباته قبل ورود السمع.
ولهذا فقد كان يقر به المشركون إقراراً فطرياً بما سلم من فطرتهم، أو إقراراً عقلياً.
وذلك بخلاف الكتابة، فإنها أصل سمعي، ولكن من المعلوم أن الأصل السمعي الذي جاءت به النصوص لا يمكن أن يكون معارضاً أو منافياً للعقل أو الفطرة، لكنها لا تدل عليه ابتداءً، فهذا هو الفرق بين هذين الأصلين.
ولما كان هذا الأصل عن الكتابة أصلاً سمعياً، قيل: إن جميع فرق أهل القبلة من المسلمين يقرون به في الجملة.
وبين السلف وجمهور الطوائف فرق من جهة التحقيق عند السلف؛ فإن هذا الأصل له قدر كلي في النصوص، وله قدر مفصل، ومفصله في السنة أكثر منه في القرآن، فهذه المفصلات عن الكتابة في السنة النبوية، من المعلوم أن أئمة السنة والجماعة أولى بها من غيرهم من جهة علمهم بها، ومن جهة تحقيقهم لهذا العلم، بخلاف غيرهم فإنه قد يتكلم في ثبوتها أو ما إلى ذلك.
إذاً: هذا الأصل من جهة عمومه محل إجماع، وأما من جهة تفاصيله فإن بعض الطوائف تتأخر عن تحقيق بعض التفاصيل لعدم علمها، أو لفساد قواعدها المتعلقة بأخبار الآحاد.
فهذا هو الأصل الثاني، وهو الإيمان بعموم كتابته، وقد دخل فيما كتب: كتابته سبحانه وتعالى لأفعال العباد؛ وفي حديث عبد الله بن عمرو في الصحيح: (إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء).