هذه الجمل السابقة هي من الجمل التي كلياتها متفق عليها بين سائر طوائف المسلمين.
ومن صنف في الاعتقاد من علماء السنة والجماعة، فإن هذا التصنيف يكون على أحد وجهين:
الوجه الأول: أن يكون المقصود من التصنيف: التقرير لمعتقد المسلمين الذي انضبط عن الصحابة رضي الله عنهم، وإن لم يشتغل بمسألة التمييز.
الوجه الآخر: أن يكون المقصود هو إظهار الامتياز.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه الرسالة -وهي الرسالة الواسطية- قصد فيها إظهار امتياز أهل السنة والجماعة عن غيرهم من الطوائف، وهذا يعني أن المصنف يغلب على تصنيفه ذكر الجمل التي فيها اختصاص عند أهل السنة عن غيرهم، بخلاف الطريقة التي سلكها أبو جعفر الطحاوي في رسالته المعروفة بالعقيدة الطحاوية، فإن الطحاوي غلب على جمله أنها جمل مشتركة بين جمهور طوائف أهل القبلة إلا من شذ من الغلاة؛ بمعنى أنها مشتركة بين جمهور طوائف أهل القبلة المنتسبة للسنة والجماعة، فيدخل في ذلك أصناف الفقهاء في الجملة، ويدخل في ذلك من يسمون متكلمة الصفاتية، كأتباع ابن كلاب ومن تأثر بطريقته، وأتباع الأشعري ومن تأثر بطريقته، وأتباع أبي منصور الماتريدي الحنفي ومن تأثر بطريقته إلى غير ذلك؛ فإن هؤلاء يعرفون بالمنتسبين إلى أهل السنة، أو بمتكلمة أهل الإثبات، وهذا يقع به امتياز عن أهل البدع المغلظة الأولى، كبدعة الجهمية المغلظة، أو بدع المعتزلة المغلظة، أو بدعة الروافض وأمثال هذه البدع.
إذاً يتحصل لنا أن من كتب من أهل السنة المحققين لمذهب السلف، يكتبون على وجهين:
إما أن يكون الغالب على جملهم ذكر ما يمتاز به أهل السنة عن أهل البدع المغلظة، وإما أن يكون الغالب عليها هو تحقيق مذهب السلف، وبيان ما يخالف هذا المذهب حتى عند متكلمة أهل الإثبات وأمثالهم، ولهذا تجد أن الجمل عند الطحاوي يغلب عليها أنها جمل مشتركة بين جمهور طوائف المسلمين: من جهة ألفاظها وحروفها العامة، أما إذا فصلت هذه الجمل فإنه يتبين بالتفصيل أنها تختص بوجهٍ ما بعقيدة أهل السنة، وبعقيدة السلف.
والمقصود أن الخلاف في هذا الباب -أعني باب اليوم الآخر- في الغالب قليل، لأن الأصول التي يتفرع عنها القول في هذا الباب جمهورها متفق عليه بين أهل القبلة، إلا من شذ من غلاة الطوائف المائلين إلى الطرق الباطنية.
فمن المعلوم -وهذه قاعدة لا بد لطالب العلم أن يعرفها- أن كل باب من أبواب الاعتقاد له أصول نتج القول في هذا الباب عنها.
والأصل الذي تفرع عنه القول في باب اليوم الآخر، جمهوره متفق عليه بين جمهور أهل القبلة، إلا من شذ ممن مال إلى الطرق الباطنية؛ فالمائلون إلى الطرق الباطنية مؤولون في باب اليوم الآخر.
وأضرب لك مقارنة في هذا: إذا رجعنا لباب الأسماء والصفات، وجدنا أن الأصل الذي تفرع عنه القول في باب الأسماء والصفات ليس متفقاً عليه بين جمهور أهل القبلة، لأن عامة المتكلمين حتى المنتسبين للسنة كـ الأشعري وأمثاله ينتحلون علم الكلام، والأصول الكلامية في تقرير هذا الباب هي ما يسمى دليل الأعراض أو دليل التخصيص وما إلى ذلك.
فالأصل الذي تحصل عنه القول في باب الأسماء والصفات عند جمهور الطوائف ليس أصلاً شرعياً، وهو العلم الكلامي، فإن علم الكلام إنما ابتدأ القول به في مسائل الإلهيات ثم عدَّاه من عدَّاه إلى مسائل أخرى، من مسائل القدر أو مسائل الإيمان أو ما إلى ذلك.
ولذلك تجد أن الأشعرية والماتريدية والكلابية ثم أهل البدع المغلظة من المعتزلة ومن أخذ الاعتزال عنهم من أنواع الشيعة إما من الزيدية أو من الرافضة أو غيرهم، وكذلك الجهمية الأولى؛ جميع هؤلاء يتفرع قولهم عن علم الكلام والأصول الكلامية المحصلة من الفلسفة، فهذا باب الأسماء والصفات.
أما باب اليوم الآخر فإن الأصل الذي يتفرع عنه القول فيه عند جمهور الطوائف أصلٌ صحيح، من جهة مجمله؛ بمعنى: أن هذا الباب يسميه كثير من الطوائف بباب السمعيات، ويقصدون بذلك أن هذا الباب لا يتكلم فيه على الأصول الكلامية من جهة ابتدائه، وإن كانوا يسعملون الدليل الكلامي في باب اليوم الآخر أو في بعض مسائله، كتقرير وإثبات لما ثبت بالقرآن، وهذا هو الفرق بين استعمال دليل المتكلمين الكلامي في باب اليوم الآخر، وبين استعماله في باب الأسماء والصفات.
وتجد أبا حامد الغزالي وهو من علماء الكلام، لما رد على الفلاسفة في كتابه، وذكر بعض مسائل اليوم الآخر، استعمل بعض الطرق الكلامية.
فكان الخلاف في هذا الباب أقل من الخلاف في غيره، لأن جمهور الطوائف إلا من مال إلى الطرق الباطنية، يجعلون الأصل في هذا الباب هو الكتاب، فكان الخلاف فيه أكثر اقتصاداً من الخلاف في غيره.
ومع ذلك فإن السلف وأتباع السنة المحضة أهل السنة والجماعة لهم اختصاص في هذا الباب؛ من جهة أنهم أكثر علماً بالنصوص المفصلة لهذا الباب ولاسيما النصوص النبوية.
فإن أكثر الطوائف غلب عليها التقصير في التحقيق للنصوص النبوية، وذلك لسببين:
السبب الأول: عدم اشتغال علمائها بهذا العلم كثيراً.
السبب الآخر: ما وضعوه من القواعد الفاسدة في تقريرهم للدلائل النبوية، كقاعدة: أن خبر الآحاد لا يحتج به في العقائد.
وعليه: فثمة امتياز لأهل السنة والجماعة في هذا الباب -باب اليوم الآخر- وإن كان الخلاف فيه ليس مشتهراً مع الطوائف؛ لأن الأصل المعتبر عند طوائف جمهور المسلمين هو أصل واحد، وهو: الدليل النصي من الكتاب أو السنة.
وانحرف عن هذا الأصل المتفق على قدره الكلي بين جمهور الطوائف من مال إلى الطرق الباطنية.
والمائلون إلى الطرق الباطنية هم أحد صنفين: إما من الشيعة، وإما من الصوفية، فإن غلاة الشيعة باطنية، وغلاة الصوفية باطنية.
والباطنية إنما نفذت أقوالهم بين بعض سواد المسلمين لأنهم انتحلوا أحد وجهين: إما أنهم انتحلوا التشيع لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعظموا آل البيت، وإما أنهم انتحلوا التنسك والعبادة والميل إلى تحقيق النسك وما إلى ذلك بأنواع من التصوف.
وإن كان يعلم أنه ليس جميع الشيعة باطنية، كما أنه ليس جميع الصوفية باطنية، بل فيهم وفيهم، ولكن الباطنية دخلوا على سواد المسلمين بأحد هذين الوجهين.
والباطنية أصولهم في نفس الأمر هي أصول فلسفية، كأمثال إخوان الصفا، فإنهم منتسبون إلى التشيع، ومع ذلك فإن حقيقة أقوالهم حقائق فلسفية محضة.
وكذلك ما جاء عن بعض غلاة الصوفية المائلين إلى هذه الطرق، فتجد عندهم من إسقاط الحقائق الشرعية -كالعبادات الأربع- ما هو معروف ومنقول عنهم في كتبهم.
والمقصود أن هؤلاء الباطنية من الصوفية أو الشيعة هم المحرفون لباب اليوم الآخر، ولذلك تجد بعض الصوفية -وإن لم يحقق الطريقة الباطنية ويلتزم بها، لكنه أخذ شيئاً من مادتها- يميل إلى شيء من هذه الطرق في بعض أقواله، كـ أبي حامد الغزالي، فإنه ليس باطنياً محضاً، وإن كان أخذ من كلام الباطنية الصوفية شيئاً، ولذلك كان عنده أغلاط في باب اليوم الآخر تأتيه من هذا الوجه.