قال المصنف رحمه الله: [وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية].
أسماء الإيمان والدين يقصد بها تسمية العبد بالإيمان أو الإسلام أو الكفر أو الفسق، أو ما إلى ذلك.
ويقصد بالحرورية الخوارج، وهي نسبة إلى مكان اجتمعت فيه الخوارج، عند نقضهم خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقد ذكر المصنف المعتزلة لأنهم أيضاً غلاة في هذا الباب؛ فالخوارج تسمي مرتكب الكبيرة: كافراً، وجمهورهم يقولون: إنه كافر كفر ملة، وعبد الله بن إباض يقول: إنه كافر كفر نعمة.
والمعتزلة تقول: إنه فاسق، لكنه فسق مطلق لا يجتمع معه شيء من الإيمان، بخلاف الفسق الذي يعتبره أهل السنة في مرتكب الكبيرة، فهو فسق يجامع أصل الإيمان، هذا هو الفرق بين تسمية أهل السنة لمرتكب الكبيرة بأنه فاسق، وتسمية المعتزلة صاحب الكبيرة بأنه فاسق.
إذاً: ليس عند المعتزلة إلا اسم واحد في الخارج، إما المؤمن وإما الكافر وإما الفاسق.
فالكافر عندهم: من كفر بأصل الدين، كاليهود.
والفاسق عندهم: من ارتكب الكبائر.
والمؤمن عندهم: من سلم من الكبائر، ولا يجتمع اسمان لمسمى واحد.
ولا شك أن هذا مخالف لصريح النصوص، فإن الإيمان شعب، والفسق شعب، والكفر شعب، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيح: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت)، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: (أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم)، وكما في حديث أبي ذر في الصحيح: (من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما)، فإذا قال شخص لشخص: (يا كافر) وهو يعرف أنه مسلم، لكن سبه بقوله: (يا كافر) لأنه فعل فعلاً مشيناً أو فعل فعلاً من أفعال الكفار، أو ترك أخلاق المسلمين إلى أخلاق الكفار، لا يكون أحدهما كافراً وخارجاً من الملة، ولا يخرج القائل من الملة، إلا إذا سماه كافراً بما هو من الإسلام، لأنه كفر بالإسلام، وأما إذا قال شخص لشخص يا كافر، لأنه اشتبه عليه أنه كافر، فهذا تأويل.
وكذلك إذا قالها من باب السب لكون هذا الفاعل فعل ما هو من أفعال الكفار وأخلاقهم، كما كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يقول أحياناً: دعني أضرب عنق هذا المنافق، مع أنه يعرف أنه من الصحابة، لكنه فعل فعلاً ليس من أفعال المؤمنين، والأشبه أنه من أفعال المنافقين فيسميه به في حاله، فهذا ليس هو المقصود في قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان لا يفهم من هذا: التسويغُ للسب بالكفر أو النفاق، فإن هذا لا يجوز، حتى لو فعل الفاعل خلقاً من أخلاق الكفار، كالغدر والسرقة والكذب وهي من أفعال المنافقين، أو الطعن في النسب، وهذه من خصال الكفر، فلا يجوز أن يُسب بالكفر.
هذه الطريقة ليست هي الطريقة العلمية الراجحة، ولهذا لم يستعملها أبو بكر في حياته مرةً واحدة، وهي قول: (نافق فلان، أو دعني أضرب عنق هذا المنافق، أو إنك منافق تجادل عن المنافقين)، صحيح أنها وقعت لبعض الصحابة في حالٍ معينة، حميةً لله ورسوله، ولكنها ليست من الطرق الراجحة في العلم، ولهذا ما استعملها الرسول عليه الصلاة والسلام ولا أبو بكر رضي الله عنه.
لو كان هذا مما يسمى به لسمى به، كما قال لـ أبي ذر: (إنك امرؤٌ فيك جاهلية) فالصحابة يجب أن يُقتدى بهم فيما هو من سننهم البينة، لا في بعض الاجتهادات التي قد تكون مرجوحة، ولا يظن أحد: أن الرسول أقرها، لأن الإنكار للشيء لا يلزم ومنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم بصريح الكلام ويقول: أخطأت وكذبت، فأحياناً من أحيانه صلى الله عليه وسلم يُعْرَف أنه لا يريد هذا التعبير من انصرافه عن تصديقه، والرسول عليه الصلاة والسلام، في غالب الأحوال ينصرف عن تصديق هذا الكلام، أي: لا يؤيد أن هذا الرجل منافق، لكن لما قيل له: (دعني أضرب عنق هذا المنافق)، في قصة عبد الله بن أبي، صدق الكلام، لكنه اعتذر، وهذا من حكمته عليه الصلاة والسلام، ففي قصة ابن أبي صدق أن الرجل منافق، ولكنه اعتذر بقوله: (لا يتحدث الناس، أن محمداً يقتل أصحابه)، ولما قيلت هذه الكلمة لرجل من السابقين ومن أهل بدر؛ حيث قال عمر رضي الله عنه: (دعني أضرب عنق هذا المنافق)، في قصة حاطب في الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم: (إنه شهد بدراً) فهذا اعتذار عن تصديق الكلمة، (وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فهذا الحديث منه هو نفي لكلمة عمر، وأن أهل بدر لا منافق فيهم.
وأحياناً يقع منه صلى الله عليه وسلم أنه لا ينصرف إلى تصديقها، ولا ينصرف إلى ردها، وإنما يعرض عنها، كأنه لم يسمعها، فهذا أيضاً فيه جمع بين المصلحتين: بين مصلحة حمد هذا المتكلم لغضبه وحميته لله ورسوله، حتى لا يقال: إنه أسقط غضبه أو رد فضله وديانته وحميته إلى غير ذلك، وفيه ترك للكلمة من حيث هي كلمة.
إذاً هذه الطريقة ليست طريقة يسلكها الرسول عليه الصلاة والسلام ولا أبو بكر ولا عمر، حتى عمر قالها في مواضع فقط، ولم يقلها في كل موضع، وقالها رضي الله عنه في مواضع اجتهاداً، بعضها كان في محله كقوله عن عبد الله بن أبي، وكقوله عن ذي الخويصرة التميمي الذي قال: (إنك لم تعدل يا محمد) وأحياناً يجتهد عمر في مقام، فيعذره النبي صلى الله عليه وسلم من وجه، ويبين له المراد في الوجه الآخر.
قال المصنف رحمه الله: [وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية].
المرجئة فرطوا في هذا الباب، وسموا أصحاب الكبائر بالمؤمنين، وهذا مما استقر عليه كلام المرجئة، أنهم يرون أن أصحاب الكبائر يسمون مؤمنين بالإطلاق، والجهمية هم وجه من أوجه المرجئة ولكنهم غلاة المرجئة.