التعفف عن المسألة أما التعفف منها مع الاكتفاء فواجب، ومع الحاجة مطلوب إلا إذا بلغت به الحاجة مبلغاً لا تبقى معه حياته، فحينئذٍ يجب عليه أن يسأل، ولا يجوز له أن يتعفف إذا وصل به الأمر إلى أن يموت لو ترك المسألة، وأما التعفف عن المسألة إذا وجد عنده ما يغنيه فهو واجب، وإذا كانت حاجته داعية من غير ضرورة الحاجة داعية لكن لا يموت بسببها فهي محل التفصيل.
قال: "وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري ? أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم" سألوه أول مرة فأعطاهم "ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفذ ما عنده، ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: ((ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم)) " لأنه -عليه الصلاة والسلام- ما عرف عنه أنه يكنز الأموال ويدخرها لنفسه، وقال -عليه الصلاة والسلام- كما في الحديث الصحيح: ((ما يسرني أن لي مثل أحدٍ ذهباً تأتي علي ثالثة وعندي منه دينار إلا دينار أرصده لدين)).
((ما يكون عندي من خيرٍ)) يعني المال {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: 180] يعني مالاً، ((ما يكون عندي من خيراً فلن أدخره عنكم)) يعني ما عرف في كنز الأموال -عليه الصلاة والسلام-، ((ومن يستعفف يعفه الله)) يوطن نفسه على العفة، تصير عنده ملكة، يصير السؤال عنده يستحضر الذل الناشئ عن السؤال ويستعفف، فأن الله -جل وعلا- يعفه، وهكذا الغرائز التي أصلها ثابتة، وبعضها مكتسب، قد يكون الإنسان ليس عنده أو ما جبل على شيء من الغرائز أو الأخلاق المحمودة، لكنه مع ذلك يحاول أن يكتسب هذه الأمور فتحصل له بالاكتساب، يستعفف يعفه الله، تعلم يعلمه الله، يتحلم يرزق الحلم، يتصبر يرزق الصبر، وهكذا.
((ومن يستغن يغنه الله)) يعني يأطر نفسه على هذا، ولا يلتفت إلى ما في أيدي المخلوقين تحصل له النتيجة، لكن إذا نظر وعلق آمالاه بالمخلوقين فإنه يوكل إلى مثل هذا، ويستمر وتستمر الحاجة عنده وتستمر الفاقة، ولا ينتفع بما يأخذ.