قال الشارح: ومتى انفصل الضميرُ الثاني عن الأول، لم يلزم فيه هذا الترتيب، بل يجوز لك أن تبدأ بأيهما شئتَ، فتقول: "أعطاه إيّاك"، و"أعطاه إيّايَ"، و"أعطاك إيّايَ"، فتكون مخيَّرًا: أيُّهما شئتَ قدّمتَ. وإنّما كان كذلك من قِبَل أنّ الضمير المنفصل يجري مجرى الظاهر لاستقلاله بنفسه، وعدم افتقاره إلى غيره، فكما أنّ الأسماء الظاهرة لا يُراعَى فيها الترتيبُ، بل تُقدِّم أيَّها شئت، فكذلك الضميرُ المنفصل.
فإذا كان الضميران غائبَيْن، جاز لك الجمعُ بينهما متّصلَيْن، فتقول: "أعطاهُوها"، و"أعطاهاهُ"، وكنتَ مخيَّرًا في أيّهما بدأتَ به. وذلك من قِبَل أنّهما كِلاهما غائبٌ، وليس فيهما تقديمُ بعيدٍ على قريبٍ. قال سيبويه (?): وهو عربيٌّ جيّدٌ، وليس بالكثير في كلامهم، بل الأكثرُ في كلامهَم: "أعطاه إيّاها"، و"أعطاها إيّاهُ"، فتأتي بضميرِ المفعول الثاني منفصلاً. وإنّما قَلَّ في كلامهم؛ لأنّه ليس فيه تقديمُ الأقرب على الأبعد لتَساويهما في المرتبة.
فأمّا قولُ مُغَلِّس بن لَقِيط الأَسَديّ [من الطويل]:
وقد جعلتْ نفسي ... إلخ
فالشاهد فيه أنّه جمع بين ضميريَن بلفظِ الغيبة، الأوّلُ مجرورٌ بإضافةِ المصدر إليه، والثاني في محلِّ نصب بالمصدر. والجيدُ الكثيرُ: "لضغْمِهما إيّاها"، فيأتي به منفصلاً. واتّصالُ الضميرَيْن في البيت أقبحُ؛ لأنّهما اتّصلا بالمصدر، وهو اسمٌ، ولم يستحكم في اتّصال الضمير به استحكامَ الفعل. يصف حالَه مع بني أخيه مُدْرِكٍ ومُرَّةَ، وهو من أبيات أوّلها:
وأَنقَتْ لِيَ الأيامُ بَعْدَكَ مُدْرِكَا ... ومُرَّةَ والدُّنْيَا كَريهٌ عِتابُها
قَرِينَيْنِ كالذئْبَيْنِ يَقْتَسِمانني ... وشَرُّ صحَاباتِ الرجالِ ذِئابُها
الضَّغْم: العَضُّ. والضمير الأوَّلُ المثنّى يعود إلى "قرينين"، والضميرُ الثاني يعود إلى النفس. وقوله: "يقرعُ العظمَ نابُها"، يصف شدّة العض بحيث يصل نابُه إلى العظم.