وأمّا قولُه تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (?) بجرّ "الأرحام" في قراءة حَمْزَةَ، فإن أكثرَ النحويين قد ضَعَّفَ هذه القراءة نَظَرًا إلىَ العطف على المضمر المخفوض. وقد ردّ أبو العبّاس محمّدُ بن يزيد هذه القراءة، وقال: لا تَحِلُّ القراءةُ بها. وهذا القول غيرُ مَرْضيّ من أبي العباس, لأنّه قد رواها إمامٌ ثِقَةٌ، ولا سبيلَ إلى رَدِّ نَقْلِ الثقة مع أنّه قد قرأتْها جماعةٌ من غيرِ السبْعة كابن مسعود، وابن عبّاسٍ، والقاسم، وإبراهيمَ النخعي، والأَعْمَش، والحسن البصري، وقَتادَةَ، ومُجاهِدٍ. وإذا صحّت الروايةُ، لم يكن سبيلٌ إلى رَدّها. ويحتمِل وجهَيْن آخَرَيْنَ غيرَ العطف على المكنيّ المخفوضِ. أحدهما: أن تكون الواو واو قَسَم، وهم يُقْسِمون بالأرحام ويُعظِّمونها، وجاء التنزيلُ على مقتضَى استعمالهم، ويكون قولُه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (?) جواب القسم. والوجهُ الثاني: أن يكون اعتقد أن قبله باءً ثانية حتى كأنّه قال: "وبالأرحام"، ثم حذف الباء, لتقدُّمِ ذكرها كما حذفت في نحو قولك: "بِمَن تَمُرُّ أَمُرُّ"، و"على من تنزِلُ أنزِل"، ولم تقل: "أمرّ به"، و"لا أنزلُ عليه"؛ لأنّها مثلُها في موضعِ نصب، وقد كثُر عنهم حذفُ حرف الجرّ، وأُنشد [من الخفيف]:

رَسْمِ دارٍ وقفتُ في طَلَلِهْ ... كِدْتُ أَقْضِي الحياةَ مِن جَلَلِهْ (?)

والمراد: ربُ رسم دار وقفتُ في طلله. وكان رُؤْبَةُ إذا قيل له: كيف أصبحتَ؟ يقول: "خَير عافاك الله"، أي: بخير فيحذف الباء لدلالةِ الحال عليه. وحذفُ حرف الجرّ ههنا، وتَبْقيةُ عمله من قبيلِ حذف المضاف في قوله [من المتقارب]:

أَكُلَّ امْرِئٍ تَحْسِبِينَ امْرَأً ... ونارٍ تَوَقَّدَ بالليلِ نارَا (?)

والمراد: وكلَّ نار، إلَّا أنّه حذف "كُلاًّ" الثانيةَ لتقدُّم ذكرها، وبقى عملها. ومثلُه قول الآخر [من الطويل]:

439 - تُعلَّق في مِثْلِ السَّوارِي سُيُوفُنا وما بَيْنَهَا والكَعْبِ غُوطٌ نَفانِفُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015