وأمّا قوله: "وقد يقع فيما ليس إيّاها"، فيريد أنّ التمييز قد يأتي بعد مفرد ليس مقدارًا من المقادير المذكورة، نحوَ قولهم: "وَيْحَهُ رجلًا"، "ولله دَرُّه فارسًا"، و"حَسْبُك به ناصرًا"، فـ "ويحه" من المصادر التي لم يُنطَق لها بفعل، ومعناه الترحْمُ، و"لله درُّه فارسًا" جملةٌ اسميةٌ، ومعناها المَدْحُ، والمراد: لله عَمَلُه. ومثلُه "حسبُك به ناصرًا". فهذه الأشياءُ مبهَمةٌ, لأنّه لم يُعلَم المدحُ من أىّ جهة، فالنكرةُ فيها منصوبةٌ على التمييز، وهي الممدوحةُ في المعنى، ونحوهُ: "هو أشجعُ الناس فارسًا" إذا أردتَ أنّه هو الممدوح بالشَّجاعة، والمضافُ إليه المجرورُ ههنا بمنزلة النون في "عشرين"، والتنوينِ في "رطل" في مَنْعه الإضافةَ إلى المميّزِ، كما منعت النونُ في "عشرين"، والتنوينُ في "رطل" من ذلك، والتقديرُ: وَيْحَه من رجلٍ، ولله درُّه من فارسٍ، وحسبُك به من ناصرٍ.
فإن قيل: "كيف جاز دخولُ "منْ" ههنا على النكرة المنصوبةِ مع بقائها على إفرادها، فقلت: "من رجلٍ"، و"من فارسٍ"، و"من ناصرٍ"، وحسُن ذلك، وأنت لا تقول: "هو أَفْرَهُ منك من عبدٍ"، ولا "عندي عشرون من درهم"، بل تَرُدّه عند ظهورِ "مِنْ" إلى الجمع، نحوَ: "من العَبِيد"، و"من الدراهم"؟ فالجوابُ أنّ هذا الموضع ربّما التبس فيه التمييزُ بالحال، فأتوا بـ "منْ" لتخلصه للتمييز، ألا ترى أنّك إذا قلت: "ويحه رجلًا"، و"لله درُّه فارسًا"، و"حسبُك به ناصرًا" جاز أنّ تَعْنِيَ في هذه الحالَ؛ فلمّا كان قد يقع فيه لبسُ مشتبِهَيْن، فُصل بينهما بدخول "مِن".
قال صاحب الكتاب: " ولقد أبى سيبويه (?) تقدم المميز على عامله. وفرق أبو العباس بين النوعين فأجاز نفساً طاب زيد، ولم يجز لي سمناً منوان, وزعم أنه رأي المازني, وأنشد قول الشاعر:
293 - [أتهجر ليلي بالفراق حبيبها] ... وما كان نفساً بالفراق تطيب"
* * *