ألا ترى أنّ "ساعةً" معمولُ "أحوج"، فكما عمل في الظرف كذلك يعمل في الحال، إذا تأخّر عنه، وهذا إنّما يكون فيما يتحوّل من نوع إلى نوع آخر، نحو: "هذا عِنَبًا أطيبُ منه زَبِيبًا"، لأنّ العنب يتحوّل زبيبًا، ولو قلت: "هذا عنبًا أطيب منه تَمْرًا" لم يجز؛ لأنّ العنب لا يتحوّل تمرًا. وإذا كان كذلك، لم يجز فيه إلاّ الرفعُ، فتقول: "هذا عنبٌ أطيبُ منه تمرٌ"، فيكون "هذا" مبتدأ، و"عنبٌ"، الخبر، و"أطيبُ منه" مبتدأ آخر، و"تمرٌ" الخبرَ، والجملةُ الثانيةُ في موضع صفة لـ "عنبِ" فاعرفه.
وأمّا قولهم: "جاء البُرُّ قَفِيزَيْن وصاعَيْن"، فالمراد: جاء البرُّ قفيزَيْن بدرهمٍ، وصاعَيْن بدرهم، فقولُهم: "قفيزين" حالٌ من البرّ، وكذلك "صاعَيْن"، فهما حالان وقعا موقع المشتقّ، فكأنّه قال: جاء البرُّ مسعَّرًا، أو رَخِيصًا، والكلامُ جملة واحدة، ويجوز رفعُه، فتقول: "جاء البرُّ قفيزان بدرهم"، فيكون "قفيزان" مبتدأ، و"بدرهم" الخبرَ، والجملة في موضع الحال، والكلامُ حينئذ جملتان. وربّما قالوا: "جاء البَرُّ قفيزَيْن وصاعَيْن"، ولا يُذكَر الدرهم، فيحذِفون الثمَنَ، لأنّه قد عُرف ممّا جرى من عادة استعمالهم في ذلك، لأنّهم إذا اعتادوا ابتياعَ شيء بثمنٍ بعينه من درهم، أو دينارٍ، تركوا ذِكْرَه، لِما في نفوسهم من معرفته، كقولك: "البُرُّ الكُرُّ بستّين"، تريد "بستّين درهمًا" و"الخُبْزُ عشرةُ أرطال"، تريد: "بدرهمٍ"، فتركوا ذكرَه لغَلَبَةِ المعاملة فيه.
وأمّا قولهم: "كلّمتُه فاهُ إلى فيَّ" فقولهم "فاه" نصبٌ على الحال، وجعلوه نائبًا عن "مشافَهةً"، ومعناه: مشافِهًا، فهو اسمٌ نائبٌ عن مصدر في معنى اسم الفاعل، والناصبُ للحال الفعل المذكور الذي هو "كلّمتُه"، وتقديره: كلّمتُه مشافِهًا. وليس ثمَّ إضمارُ عاملٍ آخر، فيكون من الشاذّ، لأنّه معرفةٌ بمنزلة "الجَمّاء الغَفِيرَ"، و"رَجَعَ عَوْدَه على بَدْئه". هذا مذهبُ أكثرِ أصحابنا البصريين، والكوفيون ينصبون "فاه إلى فيَّ" بإضمارِ "جاعِلًا"،