ألا ترى أن "بَعْدَ"، و"بَينَ" حقهما أن يضافا إلى ما بعدهما من الأسماء، ويجرّاه،
وحين دخلت عليهما، "ما" كفتهما عن ذلك، ووقع بعدهما الجملةُ الابتدائيةُ؟
وأمّا دخولها على الفعل، فإنها تدخل عليه، فتجعله يلي ما لم يكن يليه قبلُ. ألا ترى أنها تدْخِل الفعلَ على الفعل، نحوَ. "قَلمَا سرتَ"، و"قَلمَا تقوم"؟ ولم يكن الفعل، قبل دخولها يلي الفعلَ فـ "قَل" فعلٌ كان حقه أن يليه الاسمُ، لأنه فعلٌ، فلما دخلتْ عليه "ما"، كفته عن اقتضائه الفاعلَ، وألحقتْه بالحروف، وهيأته للدخول على الفعل، كما تُهيِّىء "رُبَّ" للدخول على الفعل، وأخلصوها له. فأما قوله [من الطويل]:
صددتِ فأطوَلتِ الصدودَ وقَلمَا ... وِصالٌ على طُولِ الصدود يَدُومُ (?)
فلا يجوز رفعُ "وصال" بـ "يَدُومُ"، وقد تأخر عن الاسم، ولكن يرتفع لفعل مقدَّر يُفسره "يدوم". وتفسيرُه: فلمَا يبقى وصالٌ، ونحوُه ممّا يفسره "يدوم". ولا يرتفع بالابتداء؛ لأنه موضعُ فعل. وارتفاعه هنا على حد ارتفاع الاسم بعد "هَلا" التي للتحضيض، و"إن" التي للجزاء، و"إذا" الزمانيةِ. وقد أجروا "كَثُرَ ما يقولون ذلك" مُجْرَى "قَلما"، إذ كان خلافه، كما قالوا: "صَدْيان"، و"رَيانُ"، و"غَرْثانُ"، و"شَبْعانُ"، ونظائرُ ذلك كثيرة.
الثاني استعمالُها زائدةً مؤكدة غيرَ كافةٍ, وذلك على ضربين:
أحدهما: أن تكون عوضًا من محذوف، والآخرُ أن تكون مؤكدة لا غيرُ. فالأولُ قولهم: أمَّا أنت منطلقًا انطلقتُ معك"، و"أما زيدٌ ذاهبًا ذهبتُ معه". ومنه قولُ الشاعر [من البسيط]:
أبَا خراشَه أما أنْتَ ذا نَفَرٍ ... فإن قَوْمِيَ لم تأْكُلْهُم الضبعُ (?)
قال سيبويه (?): إنما هي "أنْ" ضُمْت إليها "ما" للتوكيد، ولزمت عوضًا من ذهاب