كانت حرف جرّ، وحروفُ الجرّ مختصة بالاسم، فباشروا باللام هنا لفظَ الفعل؛ لأنّ "أنْ" حاجزٌ مقدر بينهما مع أن الفعل مُشابِهٌ للاسم وخصوصًا المضارعُ، وتالٍ له في المرتبة، فلم يجيزوا دخولَه على الحرف لبُعْده من الاسم، بخلاف لفظ الفعل. ووجه ثان، وهو أنهم كرهوا أن يباشروا باللام لفظَ "لا"، فيتوالى لامان، وذلك مستثقَل، فأظهروا "أنْ" ليزول ذلك الثقلُ, لأنّ حذف "أنْ" إنما كان لضرب من التخفيف، فلمّا أدّى إلى ثقل من جهة أُخرى؛ عادوا إلى الأصل، وكان احتمال الثقل مع موافقة الأصل أوْلى من احتمال الثقل مع مخالفة الأصل بحذف "أنِ" الناصبة.
وأمّا المؤكّدة، وهي لام الجحود، فهي تكون مع النفي في باب "كَانَ" الناقصة، كقوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} (?). وهذه اللام هي اللام في قولك: "جئتُ لتُعْطِيَنِي"، وهي التي أجازوا معها إظهارَ "أنْ". فلمّا اعترض الكلامَ النفيُ، وطال شيئًا، لزم الإضمارُ مع النفي؛ لأنه جوابٌ، ونفيٌ لإيجاب فيه حرفٌ غير عامل في الفعل، فوجب أن يكون بإزائه حرفٌ غير عامل، فقولك: "سيفعل زيدٌ"، أو "سوف يفعل"، فإنّ نَفْيه "ما كان زيد لِيفعلَ". ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} (?)، فيُباشِر الفعلَ في حال النفي حرفٌ غير عامل فيه، كما كان كذلك في حال الإيجاب.
ووجه ثان، وهو أنه إنما قبح ظهورُ "أنْ" بعد لام الجَحْد, لأنه نقيضُ فعل ليس تقديره تقديرَ اسم، ولا لفظه لفظَ اسم، وذلك أنّا إذا قلنا: "ما كان زيد لِيخرجَ"، فهو قبل الجحد كان "زيد سيخرج، وسوف يخرج". فلو قلنا: "ما كان زيد لأنْ يخرج" بإظهارِ "أنْ"؛ لكُنّا قد جعلنا مُقابِلَ "سوف يخرج"، و"سيخرج" اسمًا، فكرهوا إظهار "أنْ" لذلك؛ لأنّ النفي يكون على حسب الإثبات. وقال الكوفيون (?) لام الجحد هي العاملة بنفسها، وأجازوا تقديم المفعول على الفعل المنتصب بعد اللام، نحوَ قولك: "ما كنتُ زيداً لأضربَ"، وأنشدوا [من الطويل]:
972 - لقد وعدتْنِي أُمُّ عمرو ولم أكُنْ ... مَقالَتَها ما كنتُ حَيًّا لأسْمَعَا